التحولات العمرانية للقاهرة في ألف عام تحاكي تقلّبات السياسة

القرن التاسع عشر والقرن العشرون يشكلان حقبة مميزة، عرفت فيها القاهرة زحفا عمرانيا جديدا.
الأربعاء 2021/02/10
لكل حقبة تاريخية تأثير واضح في العمران

 تحاكي التحولات العمرانية للعاصمة المصرية، الأكثر ازدحاما وصخبا بين العواصم العربية، تبدلات سياسية وتغيرات دول وأنظمة عبر أكثر من ألف عام، هو عمرها المادي، ما لفت عيون الرحالة والمستشرقين ليلاحظوا أن كل حقبة ودولة ونظام سياسي، ترك بصماته على شوارعها.

وامتزجت التحولات بقصص شيقة وغريبة، فمنذ فتح عمرو بن العاص أرض مصر سنة 641 ميلادي، هناك مصادفات لعبت دورا في رسم التخطيط العمراني، كأن ثمة قوة تحدّد تفاصيل تلك المدينة وترسم حدودها.

ويروي تقي الدين المقريزي في “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”، وهو أهم كتاب دوّن في العصور الوسطى عن القاهرة، أن جيش عمرو بن العاص كان يحاصر حصن بابليون الشهير، وتم وضع فسطاط للقائد في المنطقة المتاخمة للحصار، وبعد تسليم الحصن، ذهب الجنود ليحلوا فسطاط القائد فوجدوا حمامة ترقد على بيضها، فذكروا ذلك لعمرو، فأخبرهم أن الحمامة اختارت مكانها حرما، وطلب منهم أن يبقى الفسطاط دون حل، ثم حفر جانبه ودعاهم إلى إقامة مدينتهم.

حكاية مشابهة تُذكر في إثر التحول السياسي التالي، عندما طارد العباسيون الخليفة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية في مصر، ثم قتلوه بها، وتشاءم الأمراء من مقر الإمارة السابق في الفسطاط، واختاروا مكان معسكر قواتهم في منطقة قريبة من الفسطاط، وسُميت العسكر، واتخذت بعد ذلك عاصمة.

وفي مرحلة تالية حقق أحمد بن طولون حاكم مصر الطموح في القرن التاسع الميلادي، استقلالا عن دولة الخلافة، واختار تأمين مملكته بإنشاء عاصمة جديدة متاخمة للفسطاط والعسكر، ليخط مدينته القطائع.

ننن

وتتكرر الأساطير والمبالغات دون حرج، فعندما أسس جوهر الصقلي قائد جيش الفاطميين، في النصف الثاني من القرن العاشر مدينة جديدة على مساحة 400 ألف فدان، أحضر المنجّمين وعلقوا الأجراس في عدة مواضع لبحث أي موضع سيدق أولا ومتى، وبالفعل دقت الأجراس في وقت صعود كوكب القاهر، ما اعتبروه فألا سيئا، فقرر القائد تسمية المدينة الجديدة باسم القاهرة كدفع للفأل السيء.

وطبقا للمستشرق الإنجليزي ستانلي بول، فثمة ملاحظة جديرة بالتسجيل ما زالت قابلة للتكرار، وهي أن كل عاصمة جديدة كان يتم إنشاؤها لتكون محل إقامة للحاكم ورجال دولته، وأصحاب النفوذ فيها، ثم لا تلبث أن تتحول مع الزمن إلى عاصمة للناس جميعا، إذ يتسرب إليها العامة تدريجيا.

ودلل الرجل على ذلك الطرح بنقل إشارات المقريزي إلى أن القاهرة أحيطت بأسوار عالية كانت لها جدران شديدة السمك، وتضم رجال الدولة الفاطمية وحدهم، وأن العامة من المصريين ظلوا لسنوات طويلة غير قادرين على دخول المدينة، إلا بصحبة كبار الجند ولأداء مهام محددة.

ونقل الرحالة ناصر خسرو، خلال زيارته للقاهرة، بعد أقل من مئة عام على إنشائها، معاينته لجدران الأسوار شديدة السمك التي لفتت انتباهه، كأنها مدينة نخبوية منعزلة عن حواضر مصر في الفسطاط والعسكر والقطائع.

وإذا كان لكل حقبة تاريخية تأثير واضح في العمران، فقد صهر الزمن تلك التأثيرات معا، وكان لتوجه دولة صلاح الدين الأيوبي وتحرير مصر من الفاطميين في القرن الثاني عشر، دافعا لتوحيد كافة عواصم مصر معا في عاصمة واحدة، هي القاهرة بحدودها الحالية، بعد إعادة بناء أسوارها مرة أخرى وإنشاء قلعة جديدة كمقر للحكم تجاور جبل المقطم.

من عادة كل دولة جديدة أن تزيل معالم الدولة السابقة، لكن القاهرة نجت من ذلك، لأن أحدا لم يكن ليزيل المباني الدينية التي أقيمت خلال عهود متعاقبة، بل هناك حكام اهتموا بترميم وإصلاح مساجد وأضرحة للسابقين، حتى لو كانت لخصوم لهم، بدليل بقاء الكثير من الآثار الفاطمية، مثل الجامع الأزهر، وجامع الحاكم بأمرالله.

اااا

تمددت القاهرة عمرانيا في العصور الوسطى التي حكمت فيها دولة المماليك نتيجة الأوبئة والمجاعات وثورات الفوضى، ولجأ الناس إلى التوسع طلبا للأمن والصحة، وكان من الملاحظ الاتساع الكبير في المباني الدينية، ربما تكفيرا من رموز الدولة عن شيم الغدر والخيانة والانقلابات الغريبة.

لم يكن غريبا أن يبدأ كل سلطان بإنشاء مدرسة دينية تضم قبة وضريحا ومسجدا، وفي بعض الأحيان سبيل ماء، ليسارع باقي رجال دولته في محاكاته بمبان شبيهة، ما جعل القاهرة تحوز لقب مدينة الألف مئذنة.

ولم تعكس هيئة المباني عظمة أصحابها من السلاطين والأمراء، فقد كانت الكثير من المساجد الكبرى تنتمي إلى سلاطين مستبدين ومضطربين، ولم يكفلوا للشعب أي حياة كريمة، أبرز مثال على ذلك مدرسة السلطان حسن، وهي أكبر وأعلى أثر إسلامي في مصر، يبلغ ارتفاع جدرانها 114 مترا، وأنشأها السلطان حسن خلال الفترة من 1356 إلى 1359، وأنفق مبالغ طائلة عليها.

ويبدو القرن التاسع عشر والقرن العشرون حقبة مميزة، عرفت فيها القاهرة زحفا عمرانيا جديدا قام به الأجانب الذين تدفقوا بعد استقرار محمد علي في الحكم وإعلانه نهضة علمية وصناعية كبرى.

ويحكي المستشرق إدوارد لين، والذي استقر في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، تحت اسم منصور أفندي، في كتابه “القاهرة قبل خمسين عاما”، كيف أدى تدفق الأوروبيين إلى إنشاء أحياء جديدة أوروبية في الأزبكية والجزيرة، شابهت المباني الجديدة ونقوشها وزخارفها مباني أوروبا.

ورغم تغيرات عاصفة شهدها النظام السياسي والاجتماعي المصري بعد ثورة يوليو سنة 1952، إلا أن ذلك لم يصاحبه تجديد في التخطيط العمراني للعاصمة التي ازدادت ازدحاما وعشوائية. ولم يتجاوز الأمر التحول من دولة ملكية إلى جمهورية وتغيير أسماء بعض شوارع القاهرة التي كانت تحمل أسماء دالة على العهد السابق.

12