"التحذير".. عالم رقمي منذور للانهيار في كل لحظة

فيلم خيال علمي يستشرف صورة قاتمة للحياة ما بعد جائحة كورونا.
الاثنين 2021/10/25
مجتمع مفكّك ألقت التكنولوجيا بثقلها عليه

صورة المجتمعات ومسارات الحياة اليومية، التي تأثرت بعنصرين اثنين ومتغيرين مهمّين وهما تضخّم الذكاء الاصطناعي وزيادة حضوره في تسيير الحياة اليومية، وتفشي الأوبئة والأمراض وآخرها ما نعيشه اليوم من انتشار وباء كورونا وتداعياته على الحياة البشرية، تظهر جلية في الفيلم الجديد “التحذير” للمخرجة أغاثا أليكساندر.

لا شك أن سينما الخيال العلمي كثيرا ما عالجت مستحدثات الذكاء الاصطناعي وتغلغله في الحياة اليومية، فضلا عن احتمالات خروجه عن السيطرة وعدم تلبيته الاحتياجات البشرية وصولا إلى التمرّد عليها في بعض الأحيان.

وفي فيلم “التحذير” للمخرجة أغاثا أليكساندر هناك المزيج من كلا العاملين، إذ تدور الأحداث في المستقبل القريب والمنظور، حيث أن البشرية لم تتعاف تماما من فايروس كورونا، وسط مجتمع تخلى عن الكمامات وعاد إلى الحياة العادية، رغم أن ظلال تلك الأزمة لا تزال قائمة.

الفيلم يقدّم صورة سوداء لمستقبل جماعات بشرية تتحكّم فيها المستحدثات الرقمية والذكاء الاصطناعي حد الاستعباد

في المقابل هناك الحياة اليومية وقد تداخلت مع الذكاء الاصطناعي إلى درجة الإسراف والمبالغة، كما هي في حالة الفتاة كلير (الممثلة أليس إيف) التي تخضع في مفرداتها الحياتية إلى نظام الذكاء الاصطناعي الذي يشبه برمجية إيلسا في مواكبتها مفردات الحياة، لكنها هنا مختلفة كليا فهي تحصي المواقف الجيدة والسيئة التي يرتكبها الشخص وتفرض عقوبات عليه في حال عدم اعترافه بالأخطاء والسيئات، ومن جهة أخرى هي وسيلة تعبّد وتعلّم تلك الفتاة أو تلقنها ما يجب أن تقول.

كل ذلك يقع على خلفية يبدأ بها الفيلم من خلال قيام ديفيد (الممثل توماس جاين) وهو رجل فضاء يقوم بمهمة إصلاح عطل في أحد أجهزة الإرسال في الفضاء الخارجي، لكنه يتعرّض فجأة إلى صعقة بأشعة مدمّرة تجعله يتهاوى سابحا في الفضاء الخارجي، وهو يروي مواقفه وأفكاره وما يعيشه من تيه في الأثير المجهول، وخلال ذلك تضرب الأرض عاصفة كهرومغناطسية تغيّرها رأسا على عقب.

والحاصل أن ما يجري بعد ذلك ما هو إلاّ صور حياتية لشخصيات يعيش كل منها حياته بشكل ما، ما بين تلك الفتاة المدمنة على أوامر الذكاء الاصطناعي والأخرى التي تتقبّل أن تخضع نفسها لتجارب الذكاء الاصطناعي من أجل سدّ نفقات المعيشة اليومية وما بين تلك الصداقات الهشّة والعلاقات الهامشية.

كل هذا يتراكم على خلفية مجتمع مفكّك ألقت التكنولوجيا بثقلها عليه مخلفة كائنات شبه ضائعة تعيش يوميات مبعثرة، وحيث يكون حتى نوع المخدرات قد تطوّر وصار مجرد ملامسة الأنف وأخذ نفس واحد كفيل بقطع صلة الشخص مع العالم الخارجي والدخول في عالم من الهلوسة والضياع.

وإذا مضينا مع هذه الدراما الفيلمية، فسوف نتعرّف على المسار الكامل الذي قدّمه ديفيد العالق في الفضاء الخارجي وقد حرص المخرج على توظيفه لكسر الجمود في الأحداث، فصار بمثابة معلق غير مباشر وصوت ثالث نائي يحكي رحلة حياته والتحديات التي واجهته والأخرى التي لا تزال تواجهه، وكأنه معلق على ذلك العالم المتداعي من حوله، لاسيما وأنه يتحدّث بالتزامن مع العد التنازلي لنفاد الأكسجين الذي يبقيه حيا لساعات قليلة قادمة، لهذا كان عليه قول كل شيء قبل أن يموت في الفضاء.

الكل خاضع للسيطرة التكنولوجية
الكل خاضع للسيطرة التكنولوجية

وهو يسترجع علاقته بأسرته وأصدقائه وكيف صار واقع الحال إلى ما صار عليه، والجميع سوف يتساءل عن الجدوى والمصير البشري في ظل هذا الواقع المأزوم والعزلة المطلقة التي تعيشها الشخصيات، ومنها الفتاة كلير التي كل ما يصلها بالعالم الخارجي محكوم بالذكاء الاصطناعي وإرشاداته، وهو نوع من الاستسلام البشري لهذا القدر المسيطر الذي آلت إليه الحياة على سطح الأرض.

وإذا تتبعنا القصة السينمائية، فلا شك أن المخرجة اتبعت طريقتها الخاصة في تسلسل الأحداث، بمعنى أنها لم ترتكز على حبكة متماسكة وحكايات ثانوية، وإنما على خطوط سردية يكمل بعضها بعضا، فضلا عن أنها تنشّط لدى المشاهد دافع الاكتشاف وإكمال ما ينقصه من معلومات حول هذا الواقع الإشكالي الذي صار سكان الأرض يعيشون فيه، وفيما صار حتى التوجه إلى الفضاء بلا جدوى وقد يفضي إلى نهايات غير سعيدة، كما حصل مع ديفيد العالق ببدلته الفضائية في الفضاء.

من هنا يمكننا القول بأن المخرجة لم تكن معنية بتسلسل منطقي ونمو درامي للأحداث بقدر اهتمامها بعرض صورة أفقية وبانورامية ليوميات حياتية في جانب منها تجسّد غربة الكائن، كما هو حال الأسرة التي تجتمع على مائدة الطعام، ولكن لكل فرد منها اهتماماته وأهدافه، فضلا عن بقايا شعور بالقلق على الأبناء من الضياع وأن تأخذهم تلك التكنولوجيا المتقدّمة إلى ذوبان الشخصية والخضوع التام للذكاء الاصطناعي، وهو ما شاهدناه فعلا في المسار الفيلمي، وذلك جانب آخر سعت المخرجة للتركيز عليه من أجل الوصول إلى نهايات مفتوحة على مجتمعات تعيش مع الأزمات وتتفاعل معها من دون أن تمتلك أي عامل قوة ضدّها.

هذا الفيلم يقدّم صورة قاتمة عن الحياة على الأرض في المستقبل القريب، كأنه مرآة سوداء لحاضر ومستقبل جماعات بشرية تعيش أزماتها المتلاحقة مع أنها تشهد أعلى مستوى من التطوّر البشري على صعيد المستحدثات الرقمية والذكاء الاصطناعي الذي تحوّل بالتدريج إلى أداة لاستعباد البشر.

14