التبني.. قضية إنسانية ترفضها قوانين أسيرة رؤى دينية في مصر

إقرار التبني قانونيا يعني ضرب مشروع استثماري ضخم للسلفيين.
الأحد 2022/09/18
بانتظار دفء عائلة

تبدو الحكومة المصرية مرتبكة تجاه قضية التبني خشية ردة فعل الأغلبية المجتمعية المهووسة دينيا، ورغم رفضها التبني، سواء للمسلم أو المسيحي، تشجع الناس على رعاية الأيتام ومجهولي النسب ودمجهم داخل الأسر البديلة، ووسّعت القواعد الخاصة بمن يمكنه كفالة طفل لتشمل العازبات فوق سن الثلاثين والمطلقات، وخفضت الحد الأدنى المطلوب للتعليم في خطة تستهدف غلق دور الرعاية الاجتماعية. ومع الانفتاح الفكري والثقافي الواضح في الكثير من المجتمعات العربية، هناك شرائح مجتمعية لا تزال لديها حساسية تجاه قضية التبني، في حين تسعى بعض الحكومات العربية إلى تكريس احتواء مجهولي النسب أسريا ودمجهم اجتماعيا.

القاهرة - عكست واقعة الطفل المصري شنودة، الذي تم إيداعه دار رعاية اجتماعية بعد أربع سنوات من قيام أسرة مسيحية بتبنيه وتربيته، عمق الأزمة التي تواجهها الحكومة المصرية عقب اعتباره مسلما بالفطرة، ومدى الحساسية التي يتم التعامل بها مع هذا النوع من القضايا بذريعة أن القوانين ذات صبغة إسلامية وتحرّم التبني.

وتم انتزاع الطفل من الأسرة المسيحية التي تبنته وأودع في إحدى دور رعاية الأيتام، وتمت تسميته “يوسف” باعتبار أن “شنودة” يوحي بأنه مسيحي، وذلك بحجة أنه فاقد الأهلية وبلا أسرة، ولم يُستدل على أبويه الحقيقيين، ما جعله مسلما بالفطرة. وهي الزاوية التي أثارت جدلا واسعا بشأن الاستمرار في تطبيق قوانين مستندة إلى الشريعة الإسلامية، والتي من المفترض أنها تُعلي من شأن الإنسانية.

وكان الأب والأم بالتبني قد وجدا الصغير، الذي عمره يوم واحد تقريبا، في محيط كنيسة. ولأنهما لا ينجبان قررا أن ينسباه إليهما بالتبني وعاش معهما أربع سنوات قبل أن تقوم ابنة أخت الزوج بتقديم شكوى للنيابة العامة طمعا في ميراث خالها، فتدخلت وزارة التضامن الاجتماعي وأخضعت الزوجين لتحليل “دي.أن.أي” وتأكدت من أن الطفل ليس ابنهما كما هو مدون في الدفاتر الرسمية، فأودعته في دار رعاية.

قوانين مجحفة

أعادت الواقعة فتح باب الحديث عن القوانين التي ترفض التبني، وطرحت تساؤلات حول الأسباب التي تحول دون استفادة أصحاب الديانات الأخرى في مصر، مثل المسيحيين، من إباحة التبني باعتبار أن عقيدتهم تسمح بذلك، ولماذا ترفض الحكومة التبني في وقت تعج فيه دور الرعاية بأطفال مجهولي النسب ويتامى ومواليد خارج إطار الزواج يحتاجون إلى من يكفلهم ويوفر لهم الإطار العائلي الذي يحتاجونه؟

الإشكالية المرتبطة بالتحريم يمكن علاجها إذا وجدت مرونة دينية عند مناقشة القضية المجتمعية

وفتح الموقف الرسمي تجاه قضية الطفل شنودة الباب لتفجير احتقان طائفي مكبوت بين مسلمين ومسيحيين على شبكات التواصل الاجتماعي بعدما تجاهلت وسائل الإعلام الحكومية التطرق إلى الواقعة من قريب أو من بعيد، إضافة إلى عدم التعليق على الأمر من أي جهة حكومية، ناهيك عن صمت المؤسسات الدينية عن تفسير ما حدث.

ودخلت دوائر كنسية ومجتمعية على خط الأزمة لرفضها ما حدث، والمطالبة بسرعة تعديل قوانين الأحوال الشخصية للمسيحيين لتكون لهم تشريعات خاصة بهم طالما أن عقيدتهم الدينية لا ترفض التبني، وبعدم وجوب أن يكونوا أسرى لرؤى تتعامل بشكل غير إنساني مع المسألة بحجة التحريم المطلق للتبني.

وترفض مؤسسات دينية في العديد من المجتمعات العربية التبني الذي بمقتضاه تقوم الأسرة بمنح الطفل اسمها وتجعله وريثا شرعيا لها، بدعوى أن ذلك من المحرمات الشرعية لعدم اختلاط الأنساب.

وتظل تونس البلد الأول والوحيد عربيا الذي شرع وأجاز التبني منذ عام 1958، ويحظى الطفل المتبنى بفرص العيش في عائلة عادية مع الإبقاء على نسخة من مضمون ولادته الأصلي، إذا عُثر على عائلته الحقيقية.

ووفق النظام المعمول به في دور الرعاية الاجتماعية بمصر، فإن الطفل مجهول النسب فور العثور عليه أمام مسجد أو كنيسة أو في أحد الشوارع يتم تسليمه إلى أقرب قسم شرطة وتسميته باسم ثلاثي وهمي يعبر عن الديانة الإسلامية التي تُستمد منها غالبية التشريعات الخاصة بالأحوال الشخصية.

ارتباك رسمي إزاء التبني

"مسلم بالفطرة"
"مسلم بالفطرة"

تجاوزت الحكومة المصرية في العام الماضي عقبة رفض مجتمعي من جانب متشددين لتسمية الأطفال مجهولي النسب والأبناء خارج مؤسسة الزواج في دور الرعاية بأن سمحت بنسبهم إلى أسماء العائلات الكافلة لهم ليحصلوا على لقب العائلة فقط دون أن يُمنح الطفل اسم الأب الذي كفله، كحل وسط للتعامل مع قضيتهم بشكل إنساني وعدم الانصياع لأصوات متشددين يصرون على تصوير الأمر باعتباره مدخلا للتبني.

ولا تزال هناك معضلة تواجه المسيحيين المصريين الراغبين في التبني، رغم أن ديانتهم لا تحرّم ذلك، بعدما اضطرّ القانون الموحد للأحوال الشخصية للمسيحيين في تسعينات القرن الماضي إلى إلغاء التبني استجابة لرغبة الدولة التي ترفض تشريعاتها الإسلامية مبدأ التبني باعتباره مخالفا للديانة الأم.

وقالت عفاف حمدي، وهي مسؤولة بإحدى دور الرعاية الاجتماعية في مصر، لـ”العرب” إن “جميع أسماء الأطفال مجهولي النسب المدونة في شهادات الميلاد وهمية وجزافية، يتم اختيارها من قبل ضباط قسم الشرطة الذين يتسلمون الطفل عقب العثور عليه، ولا بد أن يكون اسمه إسلاميا، وتكمن المعضلة في أن بعض الوثائق الرسمية تكون سببا في وصم هؤلاء الأطفال عند الكبر، حيث تسهل معرفة أنهم لقطاء، لأن اسم الأم لا يتم تدوينه في وثيقة إثبات الشخصية لمجهولي النسب، عكس الأيتام”.

وأضافت أن “الطفل مجهول النسب يبدأ، في مرحلة معيّنة، بالتساؤل عن أسرته، خاصة عندما يحمل اسما مستعارا ولا يعرف أين الأم، ولماذا لا تُكتب في وثيقة إثبات الشخصية. لذلك في أحيان كثيرة يتم التعامل معه بعنصرية تنعكس سلبا على شخصيته في المؤسسات التعليمية وعند الاختلاط في الشارع بعد أن يصل إلى مرحلة الشباب التي يُسمح له فيها بمغادرة دار الرعاية الاجتماعية ليمارس حياته بشكل طبيعي، في حين أنه لو استفاد بالتبني وتمت تسميته باسم أسرة بديلة طوال حياته لعاش آمنا”.

أغلب الرافضين لحضانة الأطفال داخل أسر كافلة لا يدركون إنسانية القضية وأثرها الإيجابي على الصغار

ويعتقد خبراء أنه طالما استمر صوت التشدد الديني هو الأعلى في المجتمع فسوف يظل تحريم حضانة الأطفال مجهولي النسب والمواليد خارج مؤسسة الزواج بالتبني أمرا واقعا لن تستطيع أي حكومة وضع حد له أمام السطوة الدينية التي لا يعترف أصحابها سوى بنصوص فقهية قديمة يتعارض بعضها كليا مع الأهداف الإنسانية.

ويشير هؤلاء إلى أن الرجعية الفكرية في بعض المجتمعات كرست اختزال التعامل مع مفهوم التبني في إطار جنسي بحت بدعوى أن الكفالة داخل أسرة حاضنة تقود إلى أن يطلع الأب على جسد فتاة كفلها وتبناها مع أنه يحل له الزواج منها، والابن المكفول سيجتمع بالأم الكافلة ويحتك بها في المنزل بشكل يتناقض مع أخلاقيات الدين.

ويصعب فصل استهداف السلفيين وبعض الجماعات الإسلامية المتناغمة معهم في أكثر من مجتمع عربي لفكرة التبني وحضانة مجهولي النسب عن تعاملهم مع القضية من منظور المكسب والخسارة، لأن هذا الفصيل الديني يمتلك الكثير من دور الرعاية الاجتماعية التي يتم توظيفها في جلب التبرعات لهؤلاء الأطفال، ويحقق أكبر قدر ممكن من المكاسب المادية باستعطاف الناس. لذلك فالتبني، أو الكفالة أو ما يعرف بالأسر البديلة، يضرب مشروعا استثماريا ضخما للسلفيين إذا اختفى هؤلاء الأطفال.

ورأت عبير سليمان، الناشطة الحقوقية في القاهرة، أن أغلب الرافضين لحضانة الأطفال داخل أسر كافلة لا يدركون إنسانية القضية وأثرها الإيجابي على الصغار، حتى عندما يتقدمون في السن، لأن الرؤى الدينية للتعامل مع القضية منغلقة وتقتصر على الأغراض الجنسية، وهي أفكار تنتقل إلى المجتمع وتؤثر في قرارات أرباب العائلات التي ترغب في التعاطي بشكل إنساني مع مجهولي النسب والمواليد خارج مؤسسة الزواج، ويجب مناقشة قضية التبني بروح الإسلام السمحة لا من خلال النصوص القديمة.

وأشارت لـ”العرب” إلى أن الرهبة الدينية التي زرعها دعاة الفتوى والسلفيون في المجتمع أثارت الريبة حول التبني، وهناك شريحة كبيرة تتعامل بخوف مع الكفالة بحجة التحريم واختلاط الأنساب، وأن الطفل لم يختر أسرته، مع أن الناس كلهم لا يختارون عائلاتهم، كذلك التلويح بكون الصغير يعيش مخدوعا داخل أسرة لها أب وأم، وهما ليسا أبويه، واستخراج اسم وهمي له خدعة، والوصمة المجتمعية التي تلحق به مستقبلا جريمة تُرتكب بحقه دون أن يقترف ذنبا.

منسوب الوعي الأسري

يجب عدم التأثر بالخطاب الديني الإقصائي
يجب عدم التأثر بالخطاب الديني الإقصائي

تعول المنظمات الحقوقية في الكثير من المجتمعات العربية على تصاعد منسوب الوعي الأسري، وعدم التأثر بالخطاب الديني الإقصائي البعيد عن النواحي الإنسانية، لأن هناك الكثير من الحلول يمكن أن تضمن عدم الخلط بين الأنساب إذا تم الإقرار بتطبيق التبني، وتستطيع الحكومة وضع معايير وقواعد صارمة تضمن التنفيذ دون إلحاق الضرر بأي طرف، فالمهم أن يتم التحلل من الأفكار التي يروج لها سلفيون وتفيد بأن الكفالة والتبني والأسر البديلة مقدمات للانحلال الأخلاقي في المجتمع.

وترى بعض الأصوات المنفتحة أن توسع بعض الحكومات العربية في مسألة الكفالة والأسر البديلة للأطفال مجهولي النسب والمواليد من خارج مؤسسة الزواج يبدو في باطنه محاولة غير مباشرة لتمرير فكرة التبني بشكل هادئ لإقناع المجتمع بالقضية لتكون هناك أرضية خصبة يمكن التطبيق عليها مستقبلا.

ويتطلب هذا الأمر وقف الخطاب التحريضي الرافض للمبدأ وإيقاف المتشددين عن الخوض في المسائل الأسرية القائمة على أساس إنساني، وزيادة الوعي المجتمعي بقيمة الكفالة وبعدها التبني.

ورأى عادل بركات الباحث المتخصص في القضايا الاجتماعية أن حسم إشكالية التبني يبدأ من وقف التعاطي معها من وجهة نظر دينية فقط، والمطلوب هو إجراء حوار مجتمعي – فقهي – فكري لدراسة مستجدات العصر ووضع النقاط على الحروف، وما يمكن تطبيقه أو منعه؛ فإذا كان هناك رجل لا يُنجب فما المانع من أن يكتب الطفل باسمه ويكون معروفا لدى المؤسسات الرسمية أنه ليس ابنا شرعيا، وهنا لن تحدث مشكلة اختلاط أنساب.

مؤسسات دينية في دول عربية تتمسك بتحريم التبني من وجهة نظر مقنعة لشريحة متدينة مقتنعة بحجة منع اختلاط الأنساب

وأوضح لـ”العرب” أن “الكفالة بالاسم، ولو بعدم تطبيق التبني بشكل حرفي، حل إنساني للأسر التي حُرمت من الإنجاب، وتصبح الفائدة مشتركة؛ فالأب والأم لديهما ابن، والطفل له أبوان بشكل لا يجعله غير مستهدف بالسخرية من كونه لقيطا، وهذه ثقافة مطلوب نشرها بتعميم التحضر الفكري والنظر إلى القضية بشكل إنساني”.

وإذا كانت بعض الرؤى الدينية متسقة مع الشرع فإن هناك مستجدات طرأت على المجتمعات تتطلب التعاطي مع النصوص الفقهية بشكل مرن، فليس من المنطقي أن تصبح دور الرعاية الاجتماعية عاجزة عن احتضان المزيد من الأيتام ومجهولي النسب والمواليد خارج مؤسسة الزواج ويتم التعامل مع الصغار بطريقة غير إنسانية، في حين أن هناك أسرا محرومة من الإنجاب لا يُسمح لها بالكفالة أو منح اسمها لطفل يعيش معها طيلة حياته.

ومهما كانت دور الرعاية الاجتماعية تتعامل مع الطفل بطريقة جيدة فلن تغنيه عن أن تكون له أسرة تخلق منه إنسانا يتسق مع نفسه ويحب الآخرين، والمهم أن ينشأ في بيئة طبيعية، وسط أب وأم يتبادل معهما الأحاسيس والمشاعر ويوفران احتياجاته،عكس استمرار تحريم الكفالة المطلقة والتبني ولو في أضيق الحدود، وهو ما من شأنه أن يأتي بنتائج سلبية لها مخاطر على الكيان المجتمعي، مثل فتح الباب أمام الاتجار بالأطفال وزيادة حدة مشكلة أطفال الشوارع.

وتتمسك مؤسسات دينية في دول عربية بتحريم التبني من وجهة نظر مقنعة لشريحة متدينة مقتنعة بحجة منع اختلاط الأنساب، مع أن الإخفاق في كشف الأنساب يمكن أن يكون واقعا في عصور سابقة، حيث كان يتم الاكتفاء بالنظر والتدقيق في ملامح ووجه الطفل للتعرف على نسبه، لكن اليوم أصبحت المهمة سهلة وبسيطة وتتم من خلال فحص الحمض النووي، أي أن الإشكالية المرتبطة بالتحريم يمكن علاجها إذا وجدت مرونة دينية عند مناقشة القضية المجتمعية.

ويتفق الداعمون للتبني في مواجهة فتاوى التحريم على ضرورة مواكبة قوانين الأحوال الشخصية الحاكمة للعلاقات الاجتماعية، فإذا كان هناك تحريم للتبني بأسانيد شرعية لا تقبل النقاش كاختلاط الأنساب فلا يجب أن يكون ذلك في العموم وتستثنى منه حالات بعينها، مثل السماح للمرأة العزباء والرجل الذي لا يُنجب بتبني طفل، لأن الاستمرار على وتيرة التحريم المطلق يتعارض مع الواجب الأخلاقي تجاه أطفال لم يرتكبوا ذنبا وأصبحوا جُناة ومتهمين بنقص الأهلية.

17