التبرع للمؤسسات الخيرية بمصر في مرمى الشبهات

عدد الجمعيات الخيرية المرتفع في مصر لا يقابله نشاط اجتماعي يساعد الدولة في تقليص نسب الفقر ما دفع مراقبين للتشكيك في شفافية تلك المؤسسات، لاسيما بعد أن كشف موظف في مؤسسة “معا لإنقاذ إنسان” حجم التجاوزات والفساد داخل المؤسسة.
القاهرة - عكس تحرك برلماني في مصر أخيرا بشأن مطالبة الحكومة بالمزيد من الرقابة على أموال التبرعات التي تصل إلى الجمعيات الخيرية مدى تراجع منسوب الثقة في المؤسسات الأهلية، بعد تكرار الحديث حول شبهات فساد مالي وإداري وصرف لأموال في غير أغراضها وعدم توجيهها كما يجب لمساعدة المحتاجين.
وتصاعدت حدة الاستقطاب المجتمعي والسياسي والإعلامي قبل أيام بسبب نشر بيانات مالية عن مؤسسات خيرية، دارت حولها شكوك بشأن عدم ذهابها لمستحقيها، واستفاد منها أصحاب جمعيات وعاملون فيها، وأنفقت بعضها على أغراض خاصة، ومؤسسات أخرى سعت إلى إقناع الناس بأنها تواجه الإفلاس لجني المزيد من التبرعات.
تقليص الحكومة من إنفاقها على القطاعات الخدمية، مقابل تراجع ثقة الناس في الجمعيات الخيرية ستكون له تداعيات سلبية على الفقراء
وفتحت وزارة التضامن الاجتماعي تحقيقات موسعة مع مسؤولي جمعية “معا لإنقاذ إنسان” بعد قيام مسؤول سابق في إدارة الحسابات بنشر تفاصيل صادمة عن جمع مبالغ مالية ضخمة وتحويلها إلى حسابات بنكية تخص موظفين وقيادات داخل المؤسسة، لافتا إلى وجود تلاعب في التبرعات.
ولم يهدأ الجدل الدائر حول معاناة مستشفى “57357” لعلاج سرطان الأطفال بالمجان بعد تسريب أنباء عبر وسائل إعلامية وفنانين بأنها تعاني خطر الإفلاس، وتواجه مصير الغلق، ما أثار شبهات كثيرة حول وجود وقائع فساد، على الرغم من أن هذا المستشفى قام بدور مهم في مساعدة الآلاف من مرضى السرطان من الأطفال، وكان يتلقى تبرعات سخية كل عام، جزء كبير منها ينفق على الرواتب والإعلانات.
وأصبح التبرع للمؤسسات الخيرية في مصر محاطا بالكثير من الشبهات، ما دفع الكثير من المواطنين المعروف عنهم تقديم مساهمات خيرية إلى المطالبة بإعادة النظر في تبرعاتهم وتوجيهها إلى كيانات أكثر مصداقية وأشد رقابة، مثل بيت الزكاة والصدقات التابع لمؤسسة الأزهر، أو وضعها في جمعيات تخضع لرقابة حكومية صارمة، أو التبرع للبسطاء مباشرة.
لمن يتبرع المصريون
أظهرت دقة الرقابة على المؤسسات الخاضعة تحت “التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي” لأي درجة تستطيع الحكومة في مصر متابعة أموال التبرعات بحسم، حتى إنفاقها في مسارات صحيحة، حيث كشف مؤتمر التحالف الذي حضره الرئيس عبدالفتاح السيسي مؤخرا حجم الأموال المنفقة على مشروعات تنموية وخدمية بوثائق وأرقام مثبتة لا تقبل التشكيك.
وجرى تدشين التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي في مارس الماضي تحت مظلة رئاسية بمشاركة وعضوية كبرى مؤسسات العمل الأهلي والتنموي، حيث يضم 24 جمعية ومؤسسة وكيانا خدميا وتنمويا، منها الاتحاد العام للجمعيات والمؤسسات الأهلية والذي يضم في عضويته 30 اتحادا نوعيا و27 اتحادا إقليميا، وكلها تعمل في مجالات تنمية خدمية وصحية وتوعوية وتعليمية وعمرانية، وغيرها.
ومنذ اليوم الأول لإنشاء التحالف الأهلي قام المسؤولون عنه برقمنة كل مراحل التبرعات بشكل يجعل من الصعب وجود خروقات مالية أو فساد إداري، حيث لا توجد تعاملات ورقية أو تدخلات بشرية، وتخضع كل خطوات التبرع لرقابة صارمة، من أجهزة موثوق بها وتحت إشراف رسمي لعدم إنفاق الأموال في مساعدات غير مستحقة، وظهر ذلك في عدد المستفيدين وفقا لظروف كل حالة أو منطقة سكنية.
ويقارن مصريون بين دقة الرقابة على التبرعات الواردة إلى الكيانات الخيرية التابعة للتحالف الوطني للعمل الأهلي مقابل الفوضى الظاهرة التي تضرب بعض المؤسسات الخيرية الأخرى التي أنشأها البعض لأغراض خاصة وجرى توظيفها لتحقيق منافع ذاتية من أموال المقتدرين ماليا، ما تسبب في استمرار معدلات الفقر كما هي دون تغيير لعدم استفادة المحتاجين منها جيدا.
ومنذ فبراير من العام الماضي، لا تزال الجهات الرقابية المصرية تواصل تحقيقاتها في مخالفات مالية جسيمة ارتكبتها جمعية خيرية كانت تجمع تبرعات لبناء المساجد، وتم الكشف عن اختلاس قياداتها قرابة 21 مليون جنيه تم إنفاقها على زوجاتهم وشراء سيارات فارهة وممتلكات خاصة وشاليهات بمناطق سياحية، ولم يتم فتح ملف هذه الجمعية إلا بعد فضح أحد مسؤوليها السابقين لما يحدث بداخلها.
ورصدت الأجهزة الرقابية من خلال حملة تفتيش مفاجئة عدة مخالفات مالية وإدارية، بينها قيام مسؤول كبير في المؤسسة التي كانت تجمع الأموال للمساجد بإسناد إدارة غالبية الأنشطة والكيانات التابعة لها لزوجاته الأربع، وينفقن منها بلا حساب، وتبيّن أن المؤسسة تدّعي الإنفاق على مشروعات خيرية ليس لها وجود على أرض الواقع، وتقوم بالدعاية لها على فضائيات مصرية مملوكة للدولة.
وتقدم عضو مجلس النواب أيمن محسب بطلب عاجل للحكومة لتوضيح شبهات الفساد الموجودة في المؤسسات الخيرية، مؤكدا أنه رغم آليات الرقابة على أموال التبرعات التي حددها القانون استمرت ممارسات التلاعب التي يقوم بها مسؤولون عن بعض الجمعيات، ما يتطلب فرض آليات أكثر صرامة للرقابة على هذه الأموال من خلال تقليل معدل التدخل البشري، وميكنة أموال التبرعات وتحصيلها إلكترونيا.
وطالب مجلس النواب بمناشدة الحكومة حصر أموال التبرعات من خلال الحسابات الرسمية للجمعيات في البنوك وأرقام الهواتف الخاصة بالمؤسسات، وتسريع وتيرة العمل في مشروع رقمنة جميع الخدمات التي تقدمها الجمعيات، وتسجيل كل الجمعيات لبياناتها وعدد المستفيدين منها بالرقم القومي، وحجم الأموال التي يتم إنفاقها، وذلك لحمايتها من التلاعب عبر مراقبة أوجه الصرف والإنفاق.
واجهة لتبييض الأموال
يؤكد متخصصون في العمل الأهلي بمصر أن تدني ثقة الناس في الكثير من الجمعيات الخيرية يرتبط بقضايا الفساد التي يتم تسليط الضوء عليها من حين إلى آخر، وانتشار ظاهرة استخدام رجال أعمال لمؤسساتهم الأهلية كواجهة اجتماعية لغسيل الأموال أو الترويج السياسي لهم، وإظهار التقارب مع السلطة وإيهامها بأنهم يشاركون في محاربة الفقر بالمجتمع، واستفادوا من تراجع ثقة الشارع في الحكومة أحيانا.
ويعتقد هؤلاء الخبراء أن الحكومة بين نارين، فهي مطالبة بالتضييق على الجمعيات الخيرية لمراقبة أموالها بدقة، والتعرف بالضبط على أوجه الإنفاق، وهو حق للمتبرعين والبسطاء، لكنها ستكون متهمة من معارضيها بمحاولة السطو على التبرعات لأغراض تنموية خاصة بها، غير أنه يصعب عليها الصمت على التجاوزات أو غض الطرف عن شبهات الفساد التي أصبحت تحوم حول مؤسسات كبيرة تدّعي أنها تساعد الدولة لتخفيف حدة احتقان بين الفقراء.
وقال عبدالحميد زيد أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة الفيوم (جنوب القاهرة) لـ”العرب” إن استمرار نسب الفقر والمرض في المجتمع مع ضخامة عدد الجمعيات الخيرية أثار شكوك الناس، والمشكلة أن الجهة الحكومية المنوط بها الرقابة، وهي وزارة التضامن، تتحرك كرد فعل بعد إثارة وقائع تتحدث عن مخالفات، ما ينعكس سلبا على العمل الخيري والتطوعي في مصر.
وأشار إلى صعوبة استمرار التكافل الاجتماعي من خلال الجمعيات الخيرية كوسيط بين الغني والفقير، وهناك وقائع تتعلق بخروقات مالية، تكرس معاناة البسطاء، ولا بد من تدخل حكومي عقلاني، يقوم على المكاشفة والمصارحة لعودة الثقة مرة أخرى بين الجمعيات الخيرية والمتبرعين بتبني إجراءات صارمة قبل أن تتسع دائرة الفقر ويوجه الناس سهام الغضب ناحية المؤسسات الرسمية المنوط بها تحسين الأوضاع.
وتفتقد بعض الجمعيات الخيرية التعامل بشفافية مع المتبرعين، فلا توجد جمعية تتحدث عن الأموال التي جمعتها وأوجه الإنفاق على كل حالة أو مشروع خدمي أو تنموي، ولا توجد مصارحة مع الشارع بحجم
المبالغ التي تم جمعها سنويا وطبيعة الخدمات التي تقدمها كل مؤسسة بالأرقام والوثائق، بل يتبرع الناس ويتركون الجمعية تتصرف كما تشاء بناء على ثقة شفوية متبادلة.
وتنتشر إعلانات التبرعات على كل الفضائيات المصرية تقريبا وتزداد مع حلول شهر رمضان، وهذا يتم من أموال المتبرعين، فيما تشير بعض التقديرات غير الرسمية إلى أن الجمعيات الخيرية تتلقى سنويا ما يقارب ثمانية مليارات جنيه (نحو 300 مليون دولار) من خلال 29 ألف مؤسسة، وتصل الأموال المخصصة للإعلانات إلى 300 مليون جنيه (حوالي 10 ملايين دولار)، على اعتبار أن الجمعية التي تفشل في الدعاية عن نفسها عاجزة عن جلب المزيد من المتبرعين.
وتعتقد دوائر سياسية أن تقليص الحكومة من إنفاقها على القطاعات الخدمية التي تستهدف البسطاء، مقابل تراجع ثقة الناس في الجمعيات الخيرية سوف تكون له تداعيات سلبية على الفقراء والاستقرار السياسي والأمني، لأن ذلك يكرس العوز وسوء الأوضاع المعيشية، لأن الحكومة تعول على العمل الخيري ليكون بدلا عن سوء الخدمات الصحية والتعليمية وتدني المساعدات المالية جراء الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تواجهها الدولة.