التباس مزمن بين المال والسياسة في الجزائر

بعد الاستقلال انتقل الشك القائم بين الثورة ورجال المال ليصبح بين السلطة ورجال المال خاصة وأن الخطاب ظل يعتبرهم امتدادا للاستعمار والاستغلال لينطلق الاقتصاد الجزائري في مرحلة التنمية أعرجا منقوصا.
الجمعة 2023/09/22
تبون يرد على الخصوم بطريقته الخاصة

الشك والريبة اللذان يخيمان على علاقة السلطة ورجال الأعمال ليسا وليدي اليوم، ولا شيء في الأفق يوحي بفرص تطبيع بينهما وفق ما تقتضيه مهمة كل طرف، ولعل ما أثير حول لجنة التقويم المالي التي أسست في الظل وانتهت في الظل، هو أحد أوجه العلاقة المتوترة بين الطرفين، وليس لعبة أخذ وعطاء في إطار القوانين والشفافية التي تدير شؤون الدولة الحديثة.

منذ سبعينات القرن الماضي التي فرض فيها النهج الاشتراكي، ساد خطاب ينظر بعين الريبة والشك إلى تلك الفئة، بدل العمل على تأطيرها بما يعود بالفائدة عليها وعلى الدولة، وظل يربطها بالاستغلال والإمبريالية التي يتوجب محاربتها، إلى أن أفضت المخارج إلى قطاع حكومي مفلس، وإلى طبقة من الأثرياء والمتطفلين، فضاع الاقتصاد المحلي بينهما.

وإذ ظهر أن السلطة قد أذعنت لضغط رجال الأعمال عندما اضطرت إلى وقف لجنة إعادة التقويم المالي، وافتراض إمكانية توظيف تلك القوة لفرض مقاربات اقتصادية بإمكانها تحريك العجلات المعطلة، فإن بواطن الأمور توحي بعكس ذلك، بما أن البعض يتحدث عن إذعان جزائري لمحتوى تقرير أميركي انتقد بشدة إدارة الشأن الاقتصادي في البلاد، وعندما أصبح التصرف وفق منطق الأوامر صعبا، استقدم رجال الأعمال إلى قصر المرادية لتمرير التراجع بواسطتهم.

◙ لعل ما قصّر عمر الرئيس تبون عندما استلم رئاسة الحكومة عام 2017 ورفع شعار "فصل المال عن السياسة"، فلم يصمد إلا ثمانين يوما في قصر الدكتور سعدان، هو تحالف المال والسياسة الذي كان أقوى من الشعارات والخطابات

ولو كانت المسألة كما يعتقد هؤلاء، فإن أول من أثار قضية لجنة التقويم المالي هي زعيمة تنظيم الكنفيدرالية العامة للمؤسسات الجزائرية سعيدة نغزة التي انتقدت الحيف الذي يطال رجال الأعمال والوضع الاقتصادي والاجتماعي. لكن رئاسة الجمهورية استقبلت تنظيم مجلس التجديد الاقتصادي الجزائري الذي يقوده رجل الأعمال كمال مولى الأمر الذي يوحي بأن المسألة تفوح منها رائحة السياسة أكثر من مجرد انشغالات واهتمامات اقتصادية.

الرئيس عبدالمجيد تبون استقبل رجل الأعمال مولى ومجموعته، وليس نغزة ورفاقها، وهذه مفارقة عجيبة، لأنه من غير المعقول الاستجابة لطلب وتبليغه بواسطة الخصم وليس المعني بالأمر الأول، وهنا تظهر على ما يبدو حسابات أخرى، فالمرأة لم تتحرك حسب البعض إلا بإيعاز ممن يريدون إجهاض طموح تبون لولاية رئاسية ثانية، ولأن الوضع الاقتصادي والاجتماعي هو الورقة الأكثر وجاهة، فقد تم تحريك بيدق على قدر من الجرأة والقوة للمواجهة.

تبون من جهته يريد الرد على خصومه بطريقته الخاصة، لذلك استقدم مواليه من رجال الأعمال، وليس المشكوك فيهم، رغم أنهم هم المبادرون بطرح الانشغال المثير للجدل، وأظهرهم في ثوب الفائز بالجائزة، حتى ولو أن هؤلاء لم يطرحوا مطالب اقتصادية تناقش بين التنظيم وبين السلطة، مما يدعو إلى التفاؤل بارتفاع السقف إلى مستوى افتكاك المكاسب والدفاع عن المصالح وخدمة الاقتصاد الوطني.

في بدايات التحول الاقتصادي والسياسي الذي باشره الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، بدأت الدولة في تقليص هيمنة القطاع الحكومي، مقابل فسح المجال أمام رأس المال الخاص، لكن معلقين قالوا بأن الدولة تنازلت عن احتكار الحكومة إلى احتكار الخواص.

وبدل من أن تبرز فئة رجال المال والأعمال طفت على السطح لوبيات متقاعدين من المؤسسات الحكومية، فظهر جنرال السكر، وجنرال القهوة، وجنرال الحديد، وأطلقت كنية “جسر الجنرالات” على منشأة فنية استحدثت قرب ميناء العاصمة لمرور شاحنات الوزن الثقيل المحملة بالحاويات المستوردة. ولذلك ضاقت هذه المرة عين الشارع وليس عين السلطة، وصار يلقب هؤلاء بـ“مصاصي” الدماء، ولا فرق بالنسبة إلى هؤلاء بينهم وبين دوائر النفوذ التي تدعمهم أو تقتسم معهم العائدات.

على عكس مجتمعات تمتلك طبقات برجوازية عريقة، فإن ظروف الاستعمار حرمت الجزائريين من تكوين ثرواتهم. وحتى من كانوا يعدون على الأصابع، حسم الموقف معهم من طرف الثورة، لأنهم قريبون من فرنسا ومن الاستقرار، وبعيدون كل البعد عن الثورة التحريرية والملايين من الجزائريين المسحوقين، وبذلك دبت علاقة الشك بين الطرفين.

وبعد الاستقلال انتقل الشك القائم بين الثورة ورجال المال، ليصبح بين السلطة ورجال المال، خاصة وأن الخطاب ظل يعتبرهم امتدادا للاستعمار والاستغلال. لذلك انطلق الاقتصاد الجزائري في مرحلة التنمية أعرج منقوصا من أهم روافده، خاصة مع تبني الدولة خيار النهج الاشتراكي حتى نهاية ثمانينات القرن الماضي.

◙ أول من أثار قضية لجنة التقويم المالي هي زعيمة تنظيم الكنفيدرالية العامة للمؤسسات الجزائرية سعيدة نغزة التي انتقدت الحيف الذي يطال رجال الأعمال والوضع الاقتصادي والاجتماعي

وعندما عادت عقارب الساعة إلى سريانها الطبيعي، ظلت السياسة غطاء للاقتصاد ولم توفق البلاد في إفراز نخب مهنية ونزيهة من رجال المال والأعمال، فكثير مما يتحرك في الواجهة، هو واجهة في حد ذاته أو مدعوم أو شريك لوبيات النفوذ في الإدارة والمؤسسات الرسمية، ولذلك لم يكن بالإمكان إنتاج رجال أعمال بالمفهوم الحقيقي للكلمة.

لعل ما قصّر عمر الرئيس تبون عندما استلم رئاسة الحكومة عام 2017 ورفع شعار “فصل المال عن السياسة”، فلم يصمد إلا ثمانين يوما في قصر الدكتور سعدان، هو تحالف المال والسياسة الذي كان أقوى من الشعارات والخطابات، ليس لأنه يملك رؤية اقتصادية ومقاربات تساعد الاقتصاد الوطني على النهوض، بل لأنهم يملكون أوراق ضغط في دوائر القرار السياسي.

سمحت التجاذبات التي أدارها الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة بإزاحة نفوذ الجيش والاستعلامات تدريجيا، ليحل محلهم نفوذ رجال المال والأعمال في إطار ما كانت تسميه المعارضة السياسية آنذاك بـ“المافيا السياسية والمالية”، وتطور المفهوم إلى “العصابة” منذ العام 2019.

والثابت أن المصطلحات والمفاهيم تتغير، لكن الوجوه ثابتة، فهذا الذي يقود مجلس التجديد الاقتصادي الجزائري كمال مولى مع نفس المجموعة التي كانت تسبح في فلك منتدى رؤساء المؤسسات الذي كان يقوده رجل الأعمال علي حداد، قبل أن تنقلب الموازين ويُحل التنظيم ويسجن الرجل رفقة مقربيه ويصبح هؤلاء مرادفين للعصابة، بينما تركب الفئة الجديدة قارب التحالف مع السلطة أو مناهضتها بدل ركوب قارب الاقتصاد الذي تهمه الأرقام والبيانات والعائدات قبل كل شيء.

8