البيع على الأرحام

الكل ينتقم من الكل والكل يسلخ جلد الكل، وكأن إرادة ما تريد تفكيك المجتمع وإنهاء مشاعر التضامن والتكافل بين الناس.
الثلاثاء 2024/12/03
تحولات عميقة داخل المجتمع

سار التقليد التجاري والتشريعي في الجزائر على قاعدة “البيع على التصاميم” لما يتعلق الأمر بشراء شقة أو محل تجاري من طرف خاص من لدن شركات العقار، ويقصد بذلك بيع العقار قبل أن يتم تشييده، وإلى هنا كل شيء عاد، ما دام القانون قد ضبط العملية، لكن يبدو أن الجشع والابتزاز فاقا كل الحدود، لما صار الموالون ومربو المواشي يبيعون خرفانهم مباشرة بعد ولادتها وحتى قبل أن تفطم.

ولأن تكنولوجيا الطب البيطري في تطور مطرد، شأنها شأن الطب البشري، فلا يستبعد أن يصبح البيع على الأرحام، فمجرد أن يكشف التصوير على أن ما في رحم النعجة خروف (ذكر) سيتم طرحه للبيع حتى قبل أن يولد، ما دام الجشع وصل إلى مستوى خارق للعرف والشرع.

تداولت شبكات التواصل الاجتماعي تسجيلات لمربي مواش بصدد بيع خرفان صغيرة بمبلغ يناهز الـ300 دولار أميركي، في إطار ذهنية النهب المنظم والجشع الفظيع الذي بات يضرب أطناب المجتمع، في ظل غياب الوازع الاجتماعي والديني والقانون الرادع، إلى درجة أن صارت كل فئة في المجتمع تحمل في رأسها تصورها للحياة وللربح والشغل.

وأبان الموال عن تهديد ووعيد لغيره من الناس، من خلال تجارته الجديدة في بيع الأحمال، وكأنه يريد من خلال ذلك العرض وتلك الأسعار أن يمارس انتقاما بطريقته الخاصة من أفراد آخرين، هم مشاريع زبائن حتى وأن أشهرا طويلة تفصل الناس عن مواسم استهلاك اللحوم، وبرر ذلك بكونه أنفق كثيرا على “الأم” النعجة، وأنه ليس بوسعه عنايتها وتربيتها إلى غاية السن المعهودة.

الظاهرة هي حلقة من مسلسل غريب ينقل تحولات عميقة داخل المجتمع، وتبرز نزوعا غير مسبوق نحو الأنانية والفردانية، إلى درجة تفضيل الذات حتى ولو كان ذلك مدمرا للمجموعة، فنفس الموال كان سيكون له رأي مخالف لما يتوجه إلى قضاء مصلحة له لدى فئة أخرى.

على هذا النحو صار مربي المواشي ينتقم من مستهلكي اللحوم، والخضّار يستعرض عضلاته على زبائنه، والطبيب لا يرحم قاصديه، وصاحب المقهى يفرض أسعاره على مرتاديه، وكم يكون ذلك الزبون البسيط سعيدا لما يرى بضاعة التاجر كاسدة يبحث لها عن مكان ليرميها، فالكل ينتقم من الكل والكل يسلخ جلد الكل، وكأن إرادة ما تريد تفكيك المجتمع وإنهاء مشاعر التضامن والتكافل بين الناس.

إلى أيام قليلة كشف الرجل الأول في الدولة عبدالمجيد تبون عن مساهمة القطاع الزراعي بـ15 في المئة، أي ما يعادل 37 مليار دولار في الناتج الداخلي الخام، وطرح مشكلة أسعار اللحوم والمواشي والخيارات المتاحة أمام الحكومة للتحكم في الوضع، لكن ذلك الموال الذي يملأ الدنيا صخبا عن دعم الحكومة لمربي المواشي، هو الذي بات يعرض البيع على الأرحام.

المسألة خرجت من منطق السوق وتقلبات العرض والطلب ونفوذ الأطراف الفاعلة، وصارت ذهنية وسلوكا يهيمن على الأفراد والفئات، في ظل انحدار المجتمع إلى التفكك والفردانية وغلبة روح الأنانية وحب الذات، ولو أن مصير نظرية الانفجار التجارية هو الذي ينتظر هذا المنحى من التفكير والمعاملة.

ظهرت نظرية كرة الثلج لدى بعض التجار والنشاط التجاري، وهم النوع الذي أغرى الأغبياء والسذج بالشراء منهم بالسعر العالي والبيع لهم بالسعر المنخفض، لتوفير حد معين من السيولة، وفي مستوى معين يحدث الانفجار، يستفيق الناس فجأة فيجدون أنفسهم قد “انضحك” عليهم، فيموت من يموت ويشل من يشل، وكذلك البائع على الأرحام يبحث عن انفجار آخر يكون ضخما من أجل ربح عابر.

18