البكالوريا الجديدة في مصر.. نظام عصري يفتقد للدراسة المتأنية

قررت مصر اعتماد نظام جديد في الثانوية العامة بدمج وإلغاء مواد في الصفوف الثلاثة للحد من الضغط الذي تسببه البكالوريا وتخفيف الأعباء عن الطلاب والأسر، لكنها جاءت مفاجئة دون تنسيق مع الأسر والمعلمين.
القاهرة - بينما تحركت الحكومة المصرية مؤخرا لتصويب منظومة الثانوية العامة (البكالوريا) على أمل أن تستريح من غضب الرأي العام بشأنها، جلبت لنفسها منغصات مضاعفة بعد أن قدمت رؤيتها منقوصة ومبتورة من التفاصيل الحيوية التي تمسّ التغيير المرتقب، وبات المعلمون وأولياء الأمور والطلاب تائهين. يتشدقون لأي معلومة، ما أفقد الحكومة غطاء شعبيا في مواجهة الخصوم.
ويُنظر إلى مرحلة البكالوريا في مصر، باعتبارها العمود الفقري لمرحلة التعليم قبل الجامعي، لأنها الوحيدة التي تؤهل الطالب إلى الجامعة، وينظر إليها الملايين من المواطنين على أنها البوابة التي تصل بالطالب إلى تحقيق حلمه الجامعي أو ينحدر إلى كلية متواضعة أو معهد متوسط، حتى صارت “بعبعا” اجتماعيا للسلطة.
وما فعلته الحكومة، أنها قررت دمج وإلغاء مواد في الثانوية العامة ذات الصفوف الثلاثة، وبدلا من أن يدرس الطالب في الصف الأول عشرة مواد تم تقليصها إلى ست، وفي الصف الثاني يدرس ستّا أيضا بدلا من ثمان، وفي الشهادة الثانوية تقرر تقليص عدد المواد إلى خمس بدلا من سبع، ولم تعد بعض المناهج أساسية، بل أُلغي بعضها والآخر أصبح خارج المجموع.
وبرر وزير التربية والتعليم محمد عبداللطيف هذا التوجه بأنه “لا توجد دولة في العالم، تُدرّس لطلابها أكثر من اثنتين وثلاثين مادة في مرحلة الثانوية العامة، وبدلا من إرهاق أولياء الأمور والمعلمين والطلاب بهذا الكم، قررنا الاحتفاظ بالمواد الأساسية المناسبة لسوق العمل، والاستغناء عن أخرى أو دمج بعض المواد، لرفع العبء عن الأسرة”.
غضب المعلمين
الجدل الشعبي حول البكالوريا يرتبط بأن الحكومة لم تقدم للناس خطابا بسيطا حول خطتها المستقبلية تجاه المنظومة
وارتبط الجدل المحتدم حول الشكل الجديد لنظام البكالوريا بعدة عوامل، منها أن معلمي المواد الذين أُلغيت المواد الدراسية الخاصة بهم أو تم دمجها في مواد أخرى، يرفضون هذا التوجه بشكل مطلق، بحجة أن ذلك سوف يجعلهم عاطلين، ويخسرون مصدر رزقهم الأساسي، مع أن الحكومة لم تتحدث عن التخلي عنهم أو فصلهم من وظائفهم.
مثال ذلك، أن المنظومة الجديدة لم تعد بها لغة أجنبية ثانية داخل المجموع، مثل الفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية، بل صارت مواد تُدرّس ويمتحن فيها الطالب ولكن الدرجة لا تضاف إلى المجموع. وهنا يتحدث معلمون عن خسارتهم لمصدر رزق مرتبط بالدروس الخصوصية، أو ما يُعرف بـ”التعليم الموازي”، لأن الطالب لن يحصل على درس خاص في مادة مهمشة.
وحسب مصدر مسؤول بوزارة التربية والتعليم تحدث مع “العرب” فإن رؤية الحكومة تجاه اللغة الثانية تحديدا مغايرة لوجهة نظر المعلمين. فالفرنسية أو الألمانية وغيرهما، لغة ثالثة وليست ثانية، لأن اللغة الأم للدولة هي العربية، وبعدها يتم اختيار اللغة الأشهر والأكثر تداولا واستخداما في العالم، وهي الإنجليزية.
وقال المسؤول “لا توجد دولة في العالم تُدرّس أكثر من لغة أجنبية إجبارية في مدارسها العمومية سوى مصر، ووجود لغة ثانية يحتاج إلى معلمين وحصص دراسية بما يؤثر سلبا على الوقت المخصص للمواد الأساسية، مثل العربية والإنجليزية والعلوم والرياضيات، ويضيف ذلك أعباء كثيرة على أولياء الأمور من خلال الدروس”.
تخفيف أعباء
ولم يستوعب معلمو اللغات الأجنبية الثانية تلك الرسالة، لأسباب مرتبطة بشعورهم بأن النظام الجديد يحيلهم شكليا إلى التقاعد المبكر، أو يحرمهم من جني مبالغ مالية ضخمة نظير الدروس الخصوصية، والأمر نفسه بالنسبة إلى باقي معلمي المواد التي تم إلغاؤها أو دمجها أو تقليص فترة تدريسها، مثل الجيولوجيا وعلم النفس والفلسفة والرياضيات التطبيقية.
ووفق المصدر نفسه، فإن “الحكومة يعنيها إرضاء الشارع، وهذا تحقق بنسبة كبيرة وليس مطلوبا منها مجاراة الجدل. فالناس يبحثون عن تخفيف الأعباء المفروضة عليهم شهريا بسبب التعليم، ويكفي أن فاتورة الدروس الخصوصية سنويا أصبحت تتخطى خمسين مليار جنيه، لذلك فالإشكالية الحالية مرتبطة بفهم المتخصصين لأسباب ما حدث، ورفض المعلمين ما يصفونه بتهميش موادهم”.
وبالنظر إلى رأي بعض المتخصصين، فإن تهميش مادة مثل علم النفس في مجتمع مضطرب يمثل انتكاسة كبرى، كما الحال بالنسبة إلى مادة الفلسفة والمنطق التي كانت تُدرس بعمق وبشكل مكثف في الصفوف الثانوية الثلاثة، حتى جرى تهميشها نسبيا بجعلها على صف دراسي واحد، مع أنها تؤهل الطالب للتفكير النقدي وإعمال العقل في بيئة مجتمعية يكسوها التشدد والتطرف الفكري.
وتبرر وزارة التربية والتعليم موقفها بأنها حصلت على موافقة مسبقة لكل هذه الخطوات من المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعي، والمجلس الأعلى للجامعات، وتم التوافق على أن طالب البكالوريا لا يجب أن يتحصل على كل العلوم والمعارف في مرحلة واحدة، لأن التعليم يفترض أنه عملية مستدامة، تنقسم بين المدرسة والجامعة، وما بعدها، من تنمية للمهارات والتأهيل الذاتي.
ووفقا لحديث المصدر مع “العرب” فإن وزارة التربية والتعليم ليس دورها تأهيل الطالب بشكل كامل ليكون متقنا للغات أجنبية ثانية، لأنه عندما يلتحق بكلية ألسن، يدرس اللغات من الصفر، وكذلك الحال عندما يلتحق بكلية الآداب قسم اللغة الفرنسية، فإنه أيضا يبدأ من الصفر، وليس مطلوبا منه أن يكون متمكنا من اللغة طالما سيتعلمها من البداية.
نظرة منقوصة
وهناك وجهة نظر أخرى، تتعلق باحتساب قيمة كل مادة في مرحلة البكالوريا نظير عدد المستفيدين بها في الجامعة، فمثلا، مادة مثل الجيولوجيا لا يحتاجها سوى الطالب الذي يلتحق بكلية العلوم قسم الجيولوجيا، وهؤلاء لا يزيد عددهم سنويا عن ألفي طالب جامعي، وليس منطقيا أن يدرس مائتا ألف طالب في الشعبة العلمية بمرحلة البكالوريا، تلك المادة، مع أن واحد في المئة فقط هم الذين يتخصصون فيها.
وينتقد خبراء تلك النظرة المنقوصة، من منطق أن طالب البكالوريا يجب أن يتعرف على علوم الأرض والتغيرات التي تحدث فيها، ويُتقن المفاهيم المتعلقة بالثروات في بلاده، ومواردها الطبيعية، مع توعيته بمصادر الطاقة في بلد لديه أزمة كبرى في ملف الطاقة عموما، وبالتالي فإن التعاطي مع كل مادة بحسابات الربح والخسارة يعبّر عن قصور في الفهم لدى بعض المسؤولين عن المنظومة التعليمية.
وأمام تمسك الكثير من المعلمين بحساب التغيير الذي حدث بمنطق الربح والخسارة، اضطرت وزارة التعليم إلى ترضيتهم والسماح لهم بتغيير موادهم طالما أُلغيت أو أصبحت خارج المجموع، فمثلا، من كان يُدرس الفرنسية وحاصل على كلية ألسن، سيحق له أن يكون معلم لغة إنجليزية، أما معلم الجيولوجيا فإنه سيقوم بتدريس الأحياء، باعتبارهما متقاربتان إلى حد بعيد، وهكذا لباقي المواد الدراسية.
وأكد الباحث والخبير التعليمي وائل كامل أن التعامل مع مواد أساسية بطريقة الحذف والدمج بطريقة غير علمية خطأ تربوي، والمشكلة أنه لا يوجد ثمة حوار مع الرأي العام أو المتخصصين، حول ما حدث وسيحدث، ما تسبب في حالة ارتباك شبه عامة، ثم أن تحويل بعض اللغات إلى مهمشة في بلد سياحي، تصرّف غير مفهوم وليس له أيّ مبرر.
وأضاف لـ”العرب” أنه لا يجب التعامل مع ملف حساس كالتعليم بسياسة الأمر الواقع، لأن الناس لن يتقبلوا فكرة التجريب في أولادهم، ثم ماذا عن خريجي كليات المواد التي تم إلغاؤها أو دمجها، أين سيعملون، وهناك طوابير منهم في حالة بطالة، لافتا إلى أن التشكيك في بعض التوجهات سببه مؤسسات رسمية تفتقد إلى لغة الحوار مع الشارع، مع أنه لا خلاف على حتمية التطوير، بل الرفض مرتبط بالطريقة ذاتها.
صمت حكومي متكرر
الأغلبية المجتمعية ترفض النظام القائم في البكالوريا، وفي نفس الوقت هناك رفض لعملية التطوير أمام الإحساس بغياب الرؤية
ويرتبط جزء من الجدل الشعبي حول البكالوريا بأن الحكومة لم تقدم للناس خطابا بسيطا حول خطتها المستقبلية تجاه المنظومة، وفاجأت الجميع بالتغييرات التي حدثت واكتفت بما قيل في مؤتمر صحفي عقده رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي برفقة وزير التربية والتعليم محمد عبداللطيف، وبعدها التزم مختلف المسؤولين الصمت عن شرح خبايا التغيير، وأهدافه، وطريقة تطبيق ما هو مستحدث.
وترتّب على ذلك أن أغلب معلمي المناهج الثانوية توقفوا عن تقديم دروس خصوصية مع أنهم كانوا يبدؤون عادة في يوليو أو بداية أغسطس كل عام، أي قبل الدراسة بشهرين، لكنهم لا يعرفون طبيعة المنهج الجديد ولا مضمونه، ولا شكل المادة بعد دمج مواد أخرى بها، مثل مادة العلوم المتكاملة للصف الأول الثانوي التي تضم الكيمياء والفيزياء والأحياء معا، بعد أن كانت كل منها مادة منفصلة.
والشق الآخر، أن أولياء الأمور الذين اعتادوا بدء الدروس مبكرا كل عام، للمزيد من التحصيل الدراسي لأبنائهم، أصبحوا أيضا تائهين ولا يعرفون هوية المناهج بعد التعديل، وكذلك الطلاب. والأدهى من ذلك أن الكثير من الأهالي دفعوا مبالغ مالية باهظة في كتب خارجية تبيعها دور نشر خاصة، كملخصات ومراجعات وتدريبات لكل مادة، وهؤلاء خسروا أموالهم، لأن المواد بعضها تم إلغاؤه، وأخرى ألغيت.
ورغم أن هناك تأييدا واسعا من أولياء الأمور لتقليل عدد المواد، لأن ذلك سيخفف العبء النفسي عن أولادهم، والمادي على الأسرة ذاتها، إلا أن نفس الشريحة غاضبة من فكرة الفجائية التي تعاملت بها الحكومة مع تطوير مرحلة البكالوريا، وعدم إجراء حوار مجتمعي حول الخطة ومضمونها وأبعادها، وتقديمها للناس بشكل سلس، كي يستوعبوا التغيير بدلا من تجاهل الاستفسارات المطروحة.
معلمون يرفضون النظام الجديد لأنه يحرمهم من جني مبالغ مالية ضخمة نظير الدروس الخصوصية
وقال الأكاديمي وائل كامل لـ”العرب” إن الأغلبية المجتمعية ترفض النظام القائم في البكالوريا، وفي نفس الوقت هناك رفض لعملية التطوير أمام الإحساس بغياب الرؤية، وهذا إرث ثقيل من غياب الثقة ويجب أن تتعامل مع الحكومة بحكمة وعقلانية، وتتعامل بجدية مع كل نقد هادف طالما أن من يقدمون النصيحة ليست لهم مصلحة، ولديهم ملاحظات منطقية.
والمشكلة الأخرى أن الحكومة اختارت التوقيت الخاطئ للإعلان عن الخطة، إذ ينطلق العام الدراسي الجديد في الحادي والعشرين من سبتمبر المقبل، ولا يزال كل شيء مبهم عن فحوى المناهج وطريقة التدريس في مرحلة تعليمية فارقة، لا يُقبل فيها التلاعب بمصير نحو 700 ألف طالب، تمثل لهم الثانوية العامة نقطة فارقة في حياتهم، ومستقبلهم التعليمي والوظيفي.
ويضاف إلى ذلك، تمسك وزارة التعليم بحضور الطلاب إلى المدارس الثانوية، مع أنها تعاني من عجز صارخ في المعلمين، وصل في كل المراحل التعليمية إلى 400 ألف معلم، بالتوازي مع تكدس الفصول لعدم بناء مدارس جديدة بسبب الظروف الاقتصادية.
ويصعب فصل الجدل الراهن، عن حالة الاستقطاب المجتمعي والسياسي حول الخلفية التي جاء منها وزير التعليم، فقد كان يُدير مدارس خاصة، وتبين أن شهادة الدكتوراه الخاصة به حصل عليها من جامعة غير معترف بها في الولايات المتحدة.
وتم تكليف وزير التعليم بالمنصب في الثالث من يوليو الماضي، ويشكك البعض أنه نجح خلال تلك الفترة القصيرة، أن يضع خارطة جديدة لمرحلة البكالوريا بتلك الصيغة، ما لم تكن مكتوبة مسبقا من جانب جهات حكومية أخرى دون أن يُشارك في وضعها، بحيث يحظى بدعم الأسر طالما جرى التشكيك في نجاحه بحكم الجدل الذي صاحب توليه المسؤولية.
وزير غير متخصص
وجاء رفض الحكومة إجراء أيّ تغيير أو تعديل على طريقة التقييم في امتحانات الثانوية العامة، ليجعل الكثيرين يشعرون بأن التطوير الراهن ليست له قيمة. فما جدوى نظام تعليمي عصري يُشبه ما هو مطبّق في الدبلومات الأميركية أو النظام البريطاني بدمج بعض العلوم مع بعضها وتقليص عدد المواد، ثم تستمر طريقة الامتحانات التي يسهل تسريبها وتشهد وقائع غش جماعي سنويا.
وتُعقد امتحانات البكالوريا بطريقة أسئلة 85 في المئة منها اختيار من متعدد بحيث يظلل الطالب الدائرة الصحيحة فقط، والباقي أسئلة مقالية يكتبها الطالب بخط يده، ولا تتخطى ثلاثة أجزاء في كل امتحان، وهي طريقة سهلة في الغش.
وتبرر الحكومة موقفها بأن عدم تغيير نظام الامتحانات مرتبط بتطبيق التصحيح الإلكتروني الذي لا يحتاج إلى تدخل بشري يتسبب في أخطاء وظلم للطلاب، لكن تظل المشكلة في عدم وجود آلية تمنع دخول وسائل الاتصال الحديثة إلى لجان الامتحانات، ويستخدمها بعض الطلاب في الغش الإلكتروني، بشكل يصعّب على المراقبين ضبطها، مثل الأقلام ونظارات العين وسماعات اليد المزودة بشرائح اتصال وإنترنت.
وأمام الشد والجذب المتواصل حول أولويات وشكل التطوير، أصبحت هناك فجوة بين الحكومة والشارع، فهي مقتنعة بوجود مقاومة لكل ما يستهدف إصلاح البكالوريا، وتغفل حق الناس في النقاش حول كل جزئية طالما تمس مصير الآلاف من الطلاب الذين تتعامل أسرهم مع التعليم كأولوية تتخطى الاهتمام برغيف الخبز.
وما لم تكفّ الحكومة عن التعامل مع خطط تطوير التعليم، وفي مقدمتها مرحلة البكالوريا، بطريقة إدارة مشروع قومي أو جسر ضخم تريد إنجازه ليضاف إلى قائمة نجاحاتها، سيظل خطابها مشكوكا في نواياه، مهما كانت لديها خطة طموحة لبناء منظومة عصرية، لأن توافر الإرادة السياسية للتغيير في ملف حساس كالتعليم، دون إرادة وقناعة مجتمعية، يؤسس لمعارضة أسرية متمردة، يصعب ترويضها بسهولة.