البشير فهمي مهاجر ليبي أحدث ثورة في الأغنية التونسية

تشترك ليبيا وتونس في الحدود الجغرافية لكنهما تتقاسمان أيضا العديد من التجارب الفنية، إذ سجل العديد من الفنانين وخاصة الموسيقيين منهم حضورهم في البلدين، حيث أثر فنانون تونسيون في الموسيقى الليبية كما تأثرت حركة الفن في تونس بفنانين من ليبيا، لعل أشهرهم البشير فهمي فحيمة الذي ربما لا يعرفه كثيرون لكنه خلف بصمة فنية لا تنسى.
يعد الفنان الليبي البشير فهمي حالة إبداعية استثنائية سواء من حيث شموليتها باعتباره شاعرا وملحنا ومؤديا ومنتجا ورسّاما وكاتبا صحفيا، أو من حيث تأثيره في المشهد الفني سواء في ليبيا أو في تونس التي كان له دور مهم في بلورة فن الغناء بها خلال النصف الأول من القرن العشرين.
والبشير فهمي هو الاسم الفني للبشير فحيمة الذي ولد بالعاصمة طرابلس في العام 1907، وهناك بدأ دراسته الأولى في كتاب “سيدي عطية”، ثم دخل مدرسة “العرفان” الذي كان يديرها مصطفى الكعبازي حيث درس اللغة العربية على يد الشيخ الطاهر الزنتان، ثم التحق بمدرسة أحمد باشا فاطلع على التاريخ الإسلامي.
وفي سن مبكرة تتلمذ على يد خاله الفنان محمد ظافر المدني فظهرت عليه علامات النبوغ في تأليف الأغاني وتلحينها والعزف على آلة العود مع حبه للغناء الذي كان في أغلبه في ذلك الوقت حكرا على الطائفة اليهودية، كما كان لتنقل الأسرة إلى عدد من مناطق البلاد مع الوالد الذي كان يعمل قاضيا في المحاكم الشرعية، دور مهم في اطلاع البشير على الألوان الغنائية الشعبية المتعددة الرائجة آنذاك سواء في المدن أو في مضارب البدو.
وبحسب كتاب “البشير فهمي حياته وفنه” لعبدالرازق محمد أبوقرين، الصادر في العام 1972، فإن البشير وما إن شعر بمقدرته الفنية حتى انضم إلى فرقة غنائية صغيرة أقامت حفلاتها في الحفلات والأعراس، وظهرت في تلك الفترة ملكته الفنية والصوتية فالتف حوله المشجعون والمعجبون الذين أعجبوا كثيرا بطربه وعزفه، وبعد مدة قصيرة أخذ يذيع أغانيه عن طريق الإذاعة الإيطالية – العربية بطرابلس فنجح نجاحا باهرا، وكانت الإذاعة تذيع حفلاتها مباشرة من الميكروفون إلى المستمعين الذين كانوا يتجمعون في المقاهي العامة لسماع أجهزة الراديو، وكانت أيضا لا تسجل الحفلات على أشرطة وأسطوانات مما سبب ضياع هذه الثروة الفنية الليبية، وطبيعي كان القصد من إنشائها الدعاية المزيفة لترغيب الاستعمار الإيطالي ومحاربة أعدائهم.
كان هناك في ذلك الوقت تبادل فني بين طرابلس وتونس التي اتجه إليها ليشتغل بالتجارة في البداية، إلا أنه لقي ترحيبا من قبل التونسيين لما كان يقدمه من أغان طرابلسية رائقة كانت تمثل رديفا للأغاني اليهودية التي كانت أغلب الأصوات التي تؤديها قادمة بدورها من طرابلس، فأنشأ شركته “فهمي فون” التي أصبح يتولى من خلالها تسجيل أغانيه وتسجيل التراث الفني الطرابلسي والتونسي، كما افتتح في تونس مركزا لتوزيع الأسطوانات، التي أذاعت اسمه بين الناس وصنعت له صيتا في كل مناطق المغرب العربي ليكون من وراء ذلك أول ليبي انخرط في المنظمة الدولية لحقوق المؤلفين والملحنين بباريس.
ويروي الكاتب والأديب أحمد إبراهيم الفقيه في كتابه “خرائط الروح”، أنه وخلال عهد الحكم الإيطالي في ليبيا، شاعت بعض الأغاني التي يقوم بتسجيلها عرب المهجر من الفنانين الليبيين، مثل المغني الشعبي الليبي البشير فهمي، المقيم بين تونس وباريس، الذي أثاره قانون الجنسية الذي أيده قبل صدوره عدد من شيوخ البلاد من بينهم مفتي الديار الليبية أبوالسعود العالم، فأطلق هذا الفنان عددا من الأغاني الشعبية الهجائية التي تهاجم هذا القانون، وتهاجم الإدارة الاستعمارية الإيطالية، ورموزها مثل الحاكم العام، وأعوانه من الليبيين مثل مفتي الديار.
بسبب سهولة ألحانها وبساطة اللغة التي كتبت بها، بالإضافة إلى مضمونها السياسي الذي يوافق هوى الناس، انتشرت هذه الأغاني بين كل طبقات الليبيين، وصاروا يرددونها جهارا، بما في ذلك الأطفال أثناء لعبهم في الشارع، مما أثار غضب رجال السلطة في طرابلس أثناء الحكم الإيطالي، فوضعوا البشير فهمي وأغانيه بما في ذلك العاطفية والفكاهية في القائمة السوداء، وأصدر الرقيب الإيطالي قرارا بمعاقبة كل من يغني أو يسمع أغانيه أو يقتني أو يبيع أو يشتري أسطواناته، أو أي أسطوانة من إنتاج شركته “فهمي فون”.
وقد اضطر البشير فهمي إلى الإقامة الدائمة بتونس حيث كان يسجل أغانيه ويتم بث بعضها من الإذاعات المحلية والفرنسية التي اعتمدتها مطربا وملحنا، وارتبط بعلاقات متميزة مع الوسط الفني التونسي، وكان له صديق من الطبقة الأرستقراطية يعمل محاميا ومغرم بالفن وهو حسونة بن عمار دعاه إلى الاستماع إلى صوت فتاة اسمها صليحة من مواليد 1914 قادمة من إحدى قرى الشمال الغربي للبلاد وتحديدا من السرس من ولاية الكاف، وكانت تعمل خادمة في منزل المغنية بدرية.
فهمي توفي في العام 1972 تاركا وراءه ثروة فنية وأدبية وتفاصيل رحلة طويلة مع الإبداع والغربة والمعاناة
هناك استمع إليها بن عمار بالصدفة دون أن تنتبه إليه، وعندما تعرف عليها البشير فهمي تأكد من أنها تمتلك صوتا رائعا وقويا فتبناه فنيا، وكان وراء تقديمها للإذاعة التونسية عند انطلاق بثها في 15 أكتوبر 1938، كما قدم لها أغاني من التراث الغنائي من بينها “في الغربة فناني” التي يرجح أنها من كلماته وألحانه، و”بخنوق بنت المحاميد” التي تعتبر من كلاسيكيات الغناء التونسي. وفي العام 1988 دعا الزعيم الليبي الراحل كعمر معمر القذافي الفنانة الكبيرة الراحلة شبيلة راشد وهي ابنة صليحة لتسجيل النسخة الأصلية كما كانت تغنى لدى قبائل سرت.
كان البشير فهمي وراء ظهور ونجاح عدد كبير من الفنانين في تونس الذين نالوا الشهرة والمجد عن طريق كلماته وألحانه وبينهم الفنان محمد الجموسي الذي غنى له “كي جيتينا”، والفنان الهادي الجويني الذي غنى من كلماته “لاموني اللي غاروا مني” التي تعد حاليا من أكثر الأغاني انتشارا على الصعيد العربي والتي كانت قد أدتها الفنانة الكبيرة حسيبة رشدي.
كما تعامل فهمي مع الفنان محمد الفرشيشي والفنانة عفيفة جمال التي غنت له أغنيتها الشهيرة “أنا قلبي طاب”، ومن أشهر أغانيه “ما عندك سو مريضة” التي سجلت بأصوات عدد من الفنانين التونسيين مثل سلاف وكمال رؤوف ونعمة وغيرهم، ويعتقد البعض أنها من أغاني التراث، بالإضافة إلى عدد آخر من الأغاني في تونس، ومن أعماله الغنائية في ليبيا “ريدي اليوم باعث لي سلامه” التي تغنى بها الفنان محمد الجزيري.
في العام 1950، ترك الفنان البشير فهمي فحيمة تونس وعاد إلى ليبيا عندما تحررت من الاحتلال الإيطالي وقبيل إعلان الاستقلال، ليفتح دكانا في المدينة القديمة، ويشتغل بالتجارة، وعندما تأسست الإذاعة الليبية بشارع الزاوية في العام 1957 تم تكليفه بأن يتولى إدارة قسم الموسيقى، ثم تفرغ للكتابة الصحفية حيث كان له عمود معروف بصحيفة “طرابلس الغرب” عنوانه “الطير اللي يغني”، كما اشتغل مصححا لغويا بمجلة “الإذاعة” وكان ينشر أزجاله ورسوماته على صحيفة “الرائد” ومجلة “ليبيا الحديثة”.
توفي فهمي في العام 1972 تاركا وراءه ثروة فنية وأدبية وتفاصيل رحلة طويلة مع الإبداع والغربة والمعاناة، وكذلك تجربة فريدة في التكامل الفني بين تونس وطرابلس الغرب قبل قيام الدولة الليبية الحديثة وهو ما يطرح ضرورة التفكير في تكريمه بعمل فني مشترك يمنح إمكانية أن يشارك فيه فنانون من البلدين.