البرامج الثقافية ضحية ما يريده المعلن في الفضائيات المصرية

لم يهتم مقدمو البرامج الثقافية في القنوات المصرية بتطوير أنفسهم بالقدر الكافي لتحقيق معادلة صعبة تقوم على تقديم محتوى إعلامي له مضمون عميق، وفي الوقت ذاته يكون جذابا ليحصل على نسب مشاهدات مرتفعة، فكانت النتيجة استبدال المحتوى الثقافي بالترفيه والتسلية لجذب الجمهور والمعلنين.
القاهرة – غابت القضايا الثقافية عن الخارطة البرامجية للفضائيات المصرية التي تتعدل وتتغير بشكل مستمر وتدور في فلك برامج الـ”توك شو” السياسية الليلية، إلى جانب بعض البرامج الترفيهية التي تشكل هدفاً للوكالات الإعلانية لقدرتها على جذب المشاهدين، ما يدعم استمرار تحول الفضائيات من أداة للتثقيف والتوعية إلى وسيلة يغلب عليها الترفيه والتسلية.
وتوقفت المسيرة الناجحة للبرنامج الثقافي “المساء مع قصواء” الذي تقدمه الإعلامية قصواء الخلالي على فضائية “تن” بعد ثلاث سنوات استطاع فيها البرنامج أن يُعيد الروح إلى هذا النوع من البرامج ويؤكد أن الجمهور على استعداد للتفاعل مع البرامج التي تقدم محتوى جادا.
وأعلنت قصواء إنهاء تعاقدها مع إدارة القناة بشكل ودي لتكون حلقة الجمعة من الأسبوع الماضي آخر الحلقات التي قدمتها بعد مسيرة حافلة بالقضايا الثقافية النوعية.
جمال الشاعر: القائمون على صناعة المحتوى غير مؤمنين بجدوى الثقافة
وقدمت قصواء أحد أهم البرامج التي تضمنت محتوى ثقافيا قريبا من شكل “التوك شو” ويقوم على عرض الكتب ومناقشتها، ومنحت بشكل أساسي الاهتمام بالصورة كنوع من التكامل داخل الوجبة الثقافية، والاستعانة بالأغاني القديمة التي تخدم الفكرة، وتم تسليط الضوء على الجوانب التاريخية مع استضافة عدد كبير من الكتاب والمثقفين والمبدعين في مجالات مختلفة حتى تشكل له جمهور خاص.
ولا يقتصر الأمر فقط على برنامج “المساء مع قصواء”، إذ أن نوعية البرامج التي تركز على المحتوى الثقافي تكاد تكون غائبة تماماً، ويمكن استثناء برنامج “العباقرة” الذي يقدمه الأديب عصام يوسف في شكل مسابقات يجريها بين الطلاب والشباب على شاشة قناة “القاهرة والناس”، وهو يلعب دوراً مهمًا في الاهتمام بالمعرفة.
وتواجه قناة النيل الثقافية التابعة لاتحاد الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو) أزمات مالية وتقنية تجعلها غير قادرة على مواكبة الشكل والمضمون الذي يحتاجه الجمهور من الشباب لجذبه إلى الثقافة، وتحظى القناة بمتابعة نخبة من المثقفين دون أن يصل تأثيرها إلى عموم المواطنين لتبقى قناة نخبوية بعد أن ابتعدت عن المحتوى الثقافي الجماهيري.
ولا يزال البرنامج الثقافي في الإذاعة المصرية يحاول أن يواصل مسيرته في تنوير الرأي العام، غير أن التقنيات التي يستخدمها تحدّ من انتشاره في شح الموارد.
وتكمن المشكلة أمام انتشار البرامج الثقافية في الإعلام المصري في الاكتفاء بصيغة واحدة مكررة لمناقشة الكتب والروايات والقضايا ذات الارتباط بالثقافة دون إحداث الدمج المطلوب بين المحتوى الثقافي والقضايا السياسية والاجتماعية وحتى الترفيهية.
ولم تجد قناة النيل الثقافية التابعة للحكومة اهتماماً واسعًا من فئات شبابية لديها شغف بالثقافة وباتت بحاجة إلى وسيلة جذب تخلق جسرا من التواصل بينها وبين هذا النوع من البرامج التي تقلصت في الإعلام المصري.
وقال مؤسس قناة النيل الثقافية ورئيسها الأسبق جمال الشاعر إن خفوت البرامج الثقافية يرجع إلى أن القائمين على صناعة المحتوى في المؤسسات الإعلامية غير مؤمنين بجدوى الثقافة، والغالبية منهم تؤمن بمقولة شهيرة كان يكررها أحد المسؤولين السابقين عن الإعلام وهي أن “الراقصة تنفق على إخوتها”، أي أن البرامج التجارية والساحرة والأخبار الساخنة والتي تحظى بقدر من الإثارة تستطيع توفير حصيلة إعلانية للصرف على باقي المحتويات الجادة.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن غياب مراكز البحث والرصد واستطلاعات الرأي بشأن اهتمامات الجمهور جعل بعض القائمين على القنوات الفضائية يدعون معرفتهم باحتياجات الجمهور، وترسخت مقولة أن الجمهور بحاجة إلى الترفيه، لكن الواقع يشير إلى أن صورة الجمهور الملتبسة عند صناع المحتوى الإعلامي جعلت الوكالات الإعلانية المتحكم الأول في صناعة المحتوى.
وأوضح أن هناك عاملا يرتبط بالإعلاميين المهتمين بتقديم المحتوى الثقافي، لأنهم لم يطوروا أنفسهم بالقدر الكافي لتحقيق معادلة صعبة تقوم على تقديم محتوى إعلامي له مضمون عميق، وفي الوقت ذاته جذابا من خلال الحصول على نسب مشاهدات مرتفعة، ولم يجتهدوا في تصميم أطر جديدة من البرامج تناسب إيقاع الإعلام الجديد.
ويتفق العديد من خبراء الإعلام على أن المفهوم الضيق للثقافة باعتبارها الأدب والكتب والفكر فوت الفرصة على إحداث تطور في مستوى الشكل والمضمون الذي تظهر به قناة النيل الثقافية أو بعض التجارب الأخرى التي لم تستمر في غياب كافة عناصر وأدوات المعرفة عن القائمين عليها التي تجعل هناك قاعدة متسعة تدور حولها المحتويات الثقافية.
ويذهب هؤلاء للتأكيد أن ما تعاني منه البرامج الثقافية لا ينفصل عن أزمة الإعلام بوجه عام الذي أخذ في الانكماش واضطر لغلق أبوابه، إذ أنه بحاجة إلى دعم جهات حكومية وهيئات ثقافية كبرى قادرة على جعله صامداً لتحقيق أهدافه باعتباره السلاح المهم في مواجهة الأفكار المتطرفة والشاردة، على أن يكون ذلك ضمن استراتيجية شاملة لدعم الفنون والثقافة والمعرفة.
ومقابل غياب البرامج الثقافية هناك انتشار واسع لقنوات الدجل والسحر والشعوذة التي تجد البيئة المواتية لجذب الجمهور، وثمة ثقافة سائدة لا تقوم على المعرفة والتاريخ لاستشراف المستقبل، لكنها ترتبط بما يتوقعه الدجالون، وهو ما يعد ترجمة مباشرة لغياب الاهتمام بالجوانب الثقافية في البرامج والدراما.
وقال مقدم برنامج “كلمات” على قناة النيل الثقافية خالد منصور إن التعامل مع الوضع القائم في الإعلام المصري بحاجة إلى تغيير مفهوم الثقافة لدى القائمين على هذه الصناعة، لأنه يمكن تقديم برنامج طهي بصبغة ثقافية عبر إدخال جوانب معرفية عن تاريخ الأغذية وفوائدها وأضرارها، ويقدم هذا المحتوى بلغة بسيطة بعيداً عن الشكل النمطي للبرامج الثقافية، وهو أمر بحاجة إلى عصف ذهني وخروج إلى الشارع للتفاعل مباشرة مع المواطنين لتظهر الصورة أمام الجمهور واقعية.
وأشار في تصريح لـ”العرب” إلى أن هناك حلقة مفقودة بين انحسار البرامج الثقافية وبين زيادة الاهتمام بالكتب والقراءة على مواقع التواصل الاجتماعي والتي لديها مردودات واسعة لدى الناس، لكن لا يوازيها اهتمام مماثل على مستوى الإعلام التقليدي، ما يبرهن على الحاجة إلى تطوير الأدوات لمسايرة الإعلام الرقمي.

ولفت إلى أن الفضائيات بحاجة إلى التخلص من سطوة “الترند” و”الترافيك” كي تستطيع أن تقدم محتوى جادا ينجذب إليه الجمهور وبطريقة تواكب العصر، وأن يكون عبر برامج لديها إيقاعات مختلفة كي نتمكن من تكرار النجاحات التي حققتها قناة النيل الثقافية سابقا، حيث استطاعت تقديم مواهب في مجالات فنية عديدة وسلطت الضوء على نماذج ناجحة في الساحة الثقافية.
ويعتقد خبراء الإعلام أنه على الفضائيات الانصهار مع المحتويات الثقافية التي يقدمها الشباب على مواقع التواصل، سواء عبر الفيديوهات أو عروض الكتب التي تقدمها مجموعات خاصة يشترك فيها الملايين من الأشخاص، وأن تقديم برامج ناجحة في المستقبل سوف يتطلب مجاراة اهتمام الجمهور واستثمار النجاح الذي حققته المنصات الثقافية التي دشنتها وزارة الثقافة.