البحر ورمزيته في رواية "البحر المحيط" لألساندرو باريكو

إن هذه المعادلة الرمزية للوجود من خلال البحر وحيوات هذه الشخصيات والمصائر الدرامية التي تنتهي إليها، هي تكثيف شاعري مسكون بنزوع درامي ينبع من تداخل الواقعي مع الخيالي.
الأحد 2018/10/21
الساندرو باريكو: رواية المصائر الغريبة بلغة شاعرية

تضعنا عتبة السرد في رواية “البحر المحيط” لـ ألساندرو باريكو ترجمة الإيطالي أمارجي ومنشورات دار المتوسط 2018 منذ البداية في فضاء المكان الأثير الذي ستجري فيه أحداث الرواية، وفي العلاقة الاستعارية التي سيقيمها عالم الرواية على المستوى الرمزي للوجود، مستعينة لأجل ذلك بلغة شعرية مكثفة، وشخصيات غرائبية تتقاطع مصائرها وحيواتها في مكان محدد، هو نزل الماير المجاور للبحر. تتوزع الرواية على ثلاثة كتب تتعدد فيها مستويات اللغة وأساليب السرد، فإلى جانب لغة السرد هناك اللغة الشعرية الموحية التي تستثمر أدوات التعبير الشعرية كالتكرار والمجاز بكثافة ظاهرة، وإلى جانب الوصف والحوار يستخدم الكاتب تقنية الرسالة وتعدد ضمائر السرد. إن هذا التعدد في مستويات اللغة وأدوات التعبير، يقابله تعدد في عوالم الشخصيات وأحداث الرواية ومصائر شخصياتها، بصورة تتجلى معها غرائبية هذا العالم ورمزيته.

يستخدم الكاتب في السرد ضمير الغائب، الذي يتولاه الراوي العليم، الحاضر في كل مكان، والعارف في ما يدور في باطن شخصياته أو في عقلها أو ما تنوي القيام به، إلى جانب السرد بضمير المفرد المتكلم.

رواية شخصيات

تتميز رواية الشخصيات عادة بهيمنة عنصر المكان عليها، وهو ما نجده ظاهرا في الرواية منذ جملة الاستهلال التي تعني بوصف المكان (رمال على مدّ البصر ما بين الأكمات والبحر- ذلك البحر- في الهواء البارد لظهيرة مضت إلا قليلا، تباركها الرياح التي تهبّ على الدوام من جهة الشمال. إنه الشاطئ والبحر..). يتصدر نُزل الماير أمكنة الرواية، وسيكون المكان الذي ستنتهي فيه أحداث الرواية. ويظهر الاهتمام بالمكان أكثر من خلال التركيز على وصف تفاصيله. وعلى الرغم من أن أحداث الرواية تتوزع على مكانين اثنين بصورة أساسية البحر والنُزل، فإن علاقة شخصيات الروايات الكثيرة به تبدو العنصر الجامع لها، على الرغم من تعدد أسباب قدومها إليه، وتنوع علاقاتها وتجاربها معه، ما يمنحه قيمة رمزية ودلالية كبيرة، نابعة من تعدد صوره وأشكال حضوره في وعي وتجارب هذه الشخصيات.

يظهر الرسام بلاسون الذي يرسم البحر بماء البحر أولا، بوصفه يمثل البعد الرمزي للذات في علاقتها مع الوجود، ثم تتالى شخصيات الرواية إيدلي والبرفسور بارتلبوم والأب بلوش وبارون كايروول والآنسة ديرا والأميرال لونغلاي وآدامز وإليزوين، وشخصية الجنائني. تتميز بعض هذه الشخصيات بثباتها سواء من خلال مواقفها أو دورها في أحداث الرواية، بينما ينحو بعضها الآخر نحو التحول وعدم الثبات، ما يؤدي إلى تطور أحداث الرواية من خلال ما يطرأ على مواقفها وسلوكها من تغيير.

وحوش وبنات آوى

الوجود مختزلا والقدر بطلا
الوجود مختزلا والقدر بطلا

تدور أحداث الكتاب الثاني من الرواية في عرض البحر، بعد أن تتعرض الفرقاطة روشفور التابعة للبحرية الفرنسية إلى الغرق، فيحاول الرجال الذين على متنها النجاة. في هذا المشهد التراجيدي القاسي تتكشف الطبيعة الإنسانية عارية، في المواقف المختلفة لركابها في محاولة للنجاة من موت يطاردهم. يعمد الدكتور وبعض البحارة إلى ابتداع طرق رهيبة للتخلص من العدد الزائد من الركاب لتوفير المؤن وإنقاذ الطوف من الغرق. يتحول ليل الطوف التائه في عرض البحر إلى ساحة جرائم وتصفية مرعبة، بينما يدفع الجوع من تبقى إلى أكل لحوم الموتى. يستخدم الكاتب اللغة الشعرية المتوترة والتكرار لأجل تعميق الشعور المأساوي بحالة (الاستسلام المريع والهزيمة الفاحشة والهلاك الباغي) لمن تبقى على قيد الحياة، وهو يحاول أن يدفع عنه مصير الموت (أول شيء هو اسمي، ثانيها تلك العيون، ثالثها هجس، رابعها الليل الذي يهبط، خامسها تلك الأجساد الممزقة، وسادسها جوع يتعاظم في الأحشاء، وينهش عند الخلق، وينقضّ على العيون…يقول مهندس الخرائط: لن ننجو، الرجال يرمق بعضهم بعضا، يترصد بعضهم بعضا. إنها اللحظة ما يحدّد شكل النزال..).

في هذا الكتاب يظهر التنوع في استخدام الكاتب لضمائر السرد، إذ ينتقل من استخدام السرد بضمير الغائب إلى استخدام السرد بضمير المفرد المتكلم، حيث يتولى سافيني سرد وتوصيف مشاهد الأجساد الممزقة والعيون التي يخيم عليها شعور بالعدم المطلق والجوع ورائحة الموت. وما يزيد من قوة تأثير المشاهد القاسية هو الاستخدام المكثف لتكرار اللازمة والعبارات الدالة على فداحة الموقف ورهبته، إضافة إلى استخدام الكاتب للجمل القصيرة التي تمنح السرد الحيوية والرشاقة.

القدر بطلا

غرابة الشخصيات تنبع من غرابة أقدارها ومصائرها
غرابة الشخصيات تنبع من غرابة أقدارها ومصائرها

في الجزء السابق من الرواية كما في جزأيها الآخرين تتجلى البنية الاستعارية للرواية في رؤيتها للوجود الإنساني المحكوم بالقدر. إن هذه الرؤية المحورية التي تدور حولها الرواية يمكن أن نجدها في قول بطل الجزء الثاني سافيني (ليس ثمة دهاء وليس ثمة بسالة قادرين على تغيير القدر. إن من رأى الحقيقة سيبقى إلى الأبد بلا عزاء). وعلى خلاف الجزأين السابقين يقوم الراوي بتقديم شخصيات الرواية والتعريف بأعمالها بدءا من آن التي تكتب رسالة إلى زوجها قبل أن تنهي حياتها بعد أن عثر على مكان وجودها في هذا النزل، وحتى شخصية دود وديرا وحوارهما الحافل بدلالاته الرمزية عن البحر وسرد البحر مرورا بشخصية الرسام بلاسون ولوحاته البحرية والبروفسور بارتلبوم الذي ظل مشغولا بإنجاز موسوعة الحدود وصاحبة قصة الزواج الغريبة وموته الغريب الذي يترك شعورا كبيرا بالغياب، والدكتور سافيني الناجي من الطوف الذي يتحول إلى بطل بفعل روايته الكاذبة لأحداث غرق السفينة، وأخيرا البحار آدامز الذي خسر حبيبته على الطوف، وكان انتقامه من الدكتور سافيني صاحب العقل الشيطاني في التخطيط للتخلص من ركاب الطوف، سببا لإعدامه.

سرد البحر

إن غرابة هذه الشخصيات تنبع من غرابة أقدارها ومصائرها التي تحكم حيواتها، وعلاقاتها في هذا النزل، حيث يأتي بعضها للاستشفاء من خيبات الحب فيضع نهاية لحياته، أو من أجل الاستشفاء من المرض المستعصي على العلاج، لكنه يتخلى عن المغامرة ويعود إلى مدينته، أو من أجل إنجاز دراسة علمية عن نظرية الحدود، أو لرسم البحر والتعرف إلى أحواله. حيوات كثيرة ومواقف مختلفة تأتلف تارة وتختلف تارة أخرى، تحاول فيها كل شخصية أن تكتشف غرابة الشخصية الأخرى وحدودها، وعلاقتها بالبحر. في هذا السرد الذي هو (سرد البحر، لأن البحر هو ما بقي لنا. الجوهر أن نحاول سرده، أحد ما سوف يصغي) يكمن جوهر العمل الروائي ورمزيته التي تعد المعادل المجازي للوجود.

إن هذه المعادلة الرمزية للوجود من خلال البحر وحيوات هذه الشخصيات والمصائر الدرامية التي تنتهي إليها، هي تكثيف شاعري مسكون بنزوع درامي ينبع من تداخل الواقعي مع الخيالي في هذا السرد الروائي الممتع والدال لتداخل هذه المصائر المختلفة في عالم غرائبي وغريب، كما يتجلى ذلك في مصائر شخصيات الرواية، ومشهد تطاير النزل في خاتمتها بعد أن غادره دود آخر الراحلين عنه، وكأنه يقدم صورة أخرى لهذا العدم الذي يهدد وجودنا في هذه الحياة.

11