البحث عن الكاتب

هل الكاتب مجرد منتج للأدب، وأن هذا المنتج يجب أن نتعامل معه بمعزل عن حقيقة كاتبه.
الثلاثاء 2019/12/10
لماذا نهمل شخص الكاتب (لوحة للفنان سنان حسين)

أسئلة طرحت وستظل تطرح من هو الكاتب، هل هو الشخصية المتخيلة التي تتشكل عند القارئ من خلال قراءة أعماله، أم هو الشخصية الأخرى التي نعايشها في الواقع، وما هو مدى التطابق الذي يمكن أن يحدث بين الشخصيتين حتى لا يجد القارئ نفسه أمام مفارقة كبيرة بين المتخيل والواقعي عندما يتعرف إلى هذا الكاتب عن قرب؟ لقد ظلت الشخصية المتخيلة للكاتب كما يعزز ظهورها عند المتلقي عوامل الشهرة والانتشار هي الأكثر حضورا وتداولا، لكن القارئ في حالات عديدة كان يجد نفسه أمام شخصية غريبة للكاتب لا تمت للشخصية المتخيلة التي صنعها له بشيء أو العكس تماما. لذلك مازال النقد ودارسو السيرة الذاتية لكثير من الكتاب يبحثون عن حقيقة هذه الشخصية في الفجوات الموجودة داخل أعماله أو في سيرته الذاتية.

ثقافتنا التي رسخت في وعينا صورة الكاتب وعلاقتها بالدور الريادي الذي يقوم به في المجتمع هي التي جعلت هذه الصورة تتشكل في مخيالنا من خلال القيم والأفكار التي ارتبطت بوظيفة الأدب. لم يعتد القارئ أن يفصل بين الكاتب وأدبه، بل إن كثيرين مازالوا يربطون بين الكاتب والمعاناة القاسية التي عاشها في طفولته، وجعلته كاتبا أو شاعرا أو أديبا. إن هذه العلاقة الوثيقة بين أنا الكاتب وأنا شخصيته الإبداعية أو أنا الضمير المتكلم في القصيدة أو القصة أو المسرح هي التي تجعل القارئ مسكونا بهذه الصورة ويخذله كثيرا ألا يجد الكاتب على صورته ومثاله.

في الثقافة الغربية عموما والأميركية على وجه الخصوص هناك دعوات إلى تجاهل شخصية المؤلف، وعدم محاكمتها على أساس القيم والأفكار التي تلح على طرحها في أدبها. الدعوة إلى موت المؤلف كما طرحها بارت أحد أعلام البنيوية هي مثال على هذه الدعوة لتجاهل شخصية المؤلف وقراءة أدبه بمعزل كلي عن هذه الشخصية بعد أن كان النقد في الماضي ينطلق من المؤلف في دراسة الأدب. إن هذا المفهوم الجديد لعلاقة الكاتب بنصه يعيدنا إلى مفهوم السلعة في السوق حيث أصبحت القيمة في السلعة ذاتها وليس في مصدرها أو منتجها.

بطلة بشخصيتين متناقضتين
بطلة بشخصيتين متناقضتين

لكن السؤال الذي يفرض نفسه لماذا يحاول النقد ومنظروه في المجتمعات الغربية إقامة هذا الفصل بين الكاتب وما يروج له في كتبه من قيم ومفاهيم كبيرة. إن هذا الفصل يعيدنا إلى مقولة المسيح المعروفة عندما رد على أسئلة المؤمنين اليهود حول فساد رجال الدين اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم. إن هذا الفصل بين الكاتب وأدبه من جهة وبين شخصيته الواقعية في الحياة من قبل الثقافة الغربية لا يرتبط بقانون السلعة وحسب، بل هو محاولة للنيل من مفهوم الالتزام الذي انتشر في مرحلة صعود الأفكار اليسارية والأدب التقدمي في العالم، وكان مفهوم الفن للفن الذي عملوا على نشره هو المثال الشاهد على هذه المحاولة للفصل بين الأدب والالتزام الأخلاقي والإنساني تجاه قضايا الإنسان الاجتماعية والروحية في الحياة.

  إن هذه المفارقة يمكن أن نجدها عند شخصية بطلة ثلاثية أحلام مستغماني فوضى الحواس وذاكرة الجسد وعابر سرير، فهذه الشخصية الغريبة التي تعيش بشخصيتين متناقضتين تماما،  شخصية المرأة العاشقة إلى درجة التهور في هذا العشق وشخصية زوج الجنرال القاسي والفاسد وإحدى أدوات القمع، لكنهما يتعايشان بسلام داخل شخصية واحدة، دون أن تجد هذه الشخصية حرجا في ممارسة هذا السلوك والتعايش معه، على خلاف شخصيات الرجال الآخرين التي تعاني من سطوة تأثير العشق السحري عليها.

لذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هل الكاتب مجرد منتج للأدب، وأن هذا المنتج يجب أن نتعامل معه بمعزل عن حقيقة كاتبه؟ قد تتفاوت الإجابات بين قارئ وآخر وبين ناقد وآخر لكن ما يجب التأكيد عليه أن نشر الكاتب لقيم الفضيلة والحرية والمحبة والخير لا يكفي لجعله صاحب رسالة، إذ لا بد أن يكون إنسانا مؤمنا بهذه القيم على أقل تقدير. قد لا يكون سلوك الكاتب غير متطابق مع درجة هذا الإيمان باعتباره إنسانا قبل أي شيء آخر، لكن من غير الممكن أن نتعامل مع شخصيته بتجرد عن هذه القيم والمثل الأخلاقية والاجتماعية. لذلك فإن الفصل بين الأدب ومنتج هذا الأدب هو تعسف يراد منه تحويل الكاتب إلى آلة إنتاج ليس إلا، وهو ما يتنافى مع الدور الذي كان ومازال الأدب والفن يعملان على تكريسه في الحياة من خلال الجمال.

في الرواية كما في الشعر هناك شخصيات كثيرة تتمرد على واقعها الاجتماعي ومنظومة قيمه لكن كاتبها لا يحمل شيئا من صفاتها أو قد يحمل بعضا منها، فهل تعبر هذه الشخصيات عن مواقف كاتبها، أو هي تحاول أن تقوم بالأدوار التي طالما كان الكاتب عاجزا عن القيام بها في الواقع؟ كل هذا يجعل من الصعب أن نبحث عن العلاقة بين شخصية الكاتب وأدبه، لأننا لا يمكن أن نعثر على هذه الشخصية في أدب صاحبها أو قد نجد بعضا منها. إن هذه الإشكالية التي مازالت تطرح نفسها على الوعي النقدي والأدبي وعلى القارئ قبل الجميع تتعلق بمفهوم الأدب وعلاقته بالكاتب كما تتعلق بالوعي الذي يحكم هذه العلاقة خارج إطار البحث عن الشهرة والتزلف للقارئ كما قد يحدث في الأدب أحيانا.

15