البابا للعراقيين في ختام زيارته لبلدهم الجريح: لا تيأسوا

أربيل (العراق) – اكتست آخر محطّتين من زيارة بابا الفاتيكان التاريخية إلى العراق أهمّية استثنائية، حيث وقف في نينوى على آثار الدّمار المادّي والمعنوي الذي خلّفته سنوات سيطرة تنظيم داعش على المحافظة، بينما لامس في أربيل مركز محافظة إقليم كردستان العراق من خلال القداس الذي أقامه هناك، عمق مأساة مسيحيي العراق التي تمثّل نموذجا مصغّرا لمأساة بلد ومعاناة شعب.
وترأس البابا فرنسيس بعد ظهر الأحد قداسا احتفاليا في أربيل، شارك فيه الآلاف وسط إجراءات صحية وأمنية وودّع العراقيين، قائلا في ختام القداس “الآن اقتربت لحظة العودة إلى روما. لكنّ العراق سيبقى دائما معي وفي قلبي”.
كما حرص في ختام زيارته على توجيه رسالة أمل قائلا “في هذه الأيام التي أمضيتها بينكم، سمعت أصوات ألم وشدّة، ولكن سمعت أيضا أصواتا فيها رجاء وعزاء”، قبل أن يحيي الحضور بعبارات “سلام، سلام، سلام.. شكرا بارككم الله جميعا.. بارك الله العراق”، مضيفا قوله باللغة العربية “الله معكم”.
وبتأثر واضح قالت بيداء سافو البالغة من العمر أربعة وخمسين عاما والتي شاركت في القداس في ملعب فرانسو حريري في أربيل مع أولادها، “نعرف الآن أن هناك من يفكر فينا، ويشعر بما نفكر فيه” وأضافت “سيشجع ذلك المسيحيين للعودة إلى أرضهم”.
وسافو بين الآلاف من المسيحيين الذين فروا من الموصل في شمال العراق إلى أربيل، بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على المنطقة بين 2014 و2017.
وكان البابا زار في وقت سابق مدينة الموصل حيث صلّى على أرواح ضحايا الحرب. كما زار قرقوش البلدة المسيحية التي نزح كل أهلها خلال سيطرة تنظيم داعش، وعاد جزء منهم خلال السنوات الماضية.
ووصل البابا بمواكبة أمنية كبيرة إلى الملعب في سيارة الباباموبيلي الشهيرة، التي ألقى منها التحية على الحشد الذي تجمع لاستقباله والمشاركة في القداس.
زيارة البابا حملت سندا نفسيا للمسيحيين المهجّرين في شمال العراق دون أن تضمن لهم عودة آمنة إلى ديارهم
ويتسع ملعب فرانسو حريري الذي يحمل اسم سياسي أشوري عراقي اغتيل قبل عشرين عاما في أربيل لعشرين ألف شخص، لكن عدد الحاضرين كان قدّر بعشرة آلاف إذ فرض على المُشاركين الحصول مسبقا على بطاقة خاصة، وتمّ تحديد العدد وذلك في إطار تدابير الوقاية من وباء كورونا.
وفي المدينة التي تعرّض مطارها أواخر فبراير الماضي لهجوم صاروخي استهدف القوات الأميركية هناك، لاقى الآلاف البابا رافعين أعلام الفاتيكان وكردستان وأغصان الزيتون.
وفي الموصل أسف البابا لـ”التناقص المأساوي في أعداد تلاميذ المسيح” في الشرق الأوسط. وقال على أنقاض كنيسة الطاهرة السريانية الكاثوليكية، إن هذا “ضرر جسيم لا يمكن تقديره، ليس فقط للأشخاص والجماعات المعنية، بل للمجتمع نفسه الذي تركوه وراءهم”.
وصلّى في الموقع الأثري الشاهد على انتهاكات عناصر داعش من “أجل ضحايا الحرب والنزاعات المسلحة”، مؤكدا أن “الرجاء أقوى من الموت، والسلام أقوى من الحرب”.
ثم توجه إلى قرقوش، حيث أدى صلاة في كنيسة الطاهرة الكبرى التي تشهد أيضا على الانتهاكات العديدة لتنظيم الدولة الإسلامية في شمال العراق.
وقام بجولة بعربة غولف في المدينة وسط حشد صغير رافقه بالزغاريد والتحيات.
وقالت هلا رعد بعد أن مر البابا من أمامها “هذا أجمل يوم”. وأضافت المرأة المسيحية التي فرت من الموصل عند سيطرة داعش عليها “نأمل الآن أن نعيش بأمان، هذا هو الأهم”.

وأرغم العديد من مسيحيي العراق بفعل الحروب والنزاعات وتردي الأوضاع المعيشية على الهجرة. ولم يبقَ سوى 400 ألف مسيحي من سكان البلد البالغ عددهم 40 مليونا بعدما كان عدد المسيحيين هناك 1.5 مليون عام 2003 قبل الاجتياح الأميركي للعراق.
واكتست زيارة البابا لنينوى أهمية كبرى، لاسيما أن المحافظة ومركزها الموصل تشكّل مركزا للطائفة المسيحية في العراق، وقد تعرّضت كنائسها وأديرتها التراثية العريقة لدمار كبير على يد التنظيم المتطرف.
وقال البابا في كلمته من الموصل “إنها لقسوة شديدة أن تكون هذه البلاد، مهد الحضارات قد تعرّضت لمثل هذه العاصفة اللاإنسانية التي دمّرت دور العبادة القديمة”.
ورأى المسيحيون الذين عملوا منذ أسابيع على ترميم وتنظيف كنائسهم المدمرة والمحروقة، في هذه الزيارة البابوية الأولى في تاريخ العراق، رسالة أمل.
وقال منير جبرائيل الذي شارك في استقبال البابا في قرقوش “ربما تساعد زيارة البابا في إعادة بناء البلاد، وإحضار السلام والحب أخيرا. شكرا له”.
واستقبل سكان بلدة قرقوش البابا بسعف النخيل قبل أن يدخل الكنيسة على وقع الألحان السريانية، ويؤدي فيها صلاة أشار فيها إلى “ضرورة إعادة بناء ما دمّرته سنوات من العنف والكراهية”.
وأحرق تنظيم الدولة الإسلامية الكنيسة في قرقوش قبل أن يعاد ترميمها. ولحق دمار كبير بالبلدة على يد التنظيم، ولا يزال الوضع الأمني متوترا مع انتشار مجموعات مسلحة بأعداد كبيرة في السهول المحيطة.
وقال البابا في كلمته “قد يكون الطريق إلى الشفاء الكامل ما زال طويلا، لكني أطلب منكم، من فضلكم، ألا تيأسوا”.
وتعرّض عشرات الآلاف من مسيحيي نينوى للتهجير في العام 2014 بسبب سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، ورغم السند النفسي الذي حملته لهم زيارة البابا إلاّ أن عودتهم إلى ديارهم لا تزال غير مضمونة العواقب، حيث لا يثق الكثير منهم في القوات الأمنية التي يقولون إنها تخلّت عنهم.
وقال المتحدث باسم الفاتيكان ماتيو بروني الأحد “هذه رحلة لها طابع خاص نظرا للظروف”. وأضاف “لكنها مبادرة حبّ وسلام لهذه الأرض وهذا الشعب”.