الانقلاب الأبيض في السودان!

لم يكن تبادل الاتهامات بين الطرفين العسكري والمدني لمجلس السيادة الانتقالي في السودان إثر محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي أعلنت عنها السلطات ليل 21 سبتمبر، لينبئ بالخير الذي كان قد استبشر به الكثيرون – وأنا واحدة منهم – عندما شهدنا تشكيل قيادة مشتركة لإدارة البلاد في المرحلة الانتقالية التي أعقبت ثورة السودان الكبرى وقد أطاحت بنظام الرجل الواحد عمر البشير، تلك القيادة التي تدير شؤون البلاد برئاسة الفريق عبدالفتاح البرهان منذ شهر أغسطس عام 2019 في إطار مرحلة انتقالية يُفترض أن تفضي إلى حكم مدني مكتمل الأركان يصل إثر انتخابات عامة في البلاد ستجري في مطلع العام 2024.
الأمر الجلل استدعى عقد اجتماع طارئ بين رئيس الوزراء عبدالله حمدوك عن الجناح المدني للمجلس، والفريق البرهان ممثلاً لرأس المجلس وجناحه العسكري، حيث شدّد الطرفان خلال اللقاء على أن الشعب سيواصل مسيرته لتحقيق أهداف الثورة ولن يكون هذا التحرّك الانقلابي الفاشل عائقاً في طريق التغيير الديمقراطي الكامل في البلاد.
وأشار البرهان في ختام اللقاء إلى أن القوات المسلحة هي الأكثر حرصاً على حماية المرحلة الانتقالية، وأن الجيش سينسحب من المشهد السياسي حال الوصول إلى مرحلة الانتخابات التي ستتيح الفرصة للشعب ليقرّر من يجد فيه الكفاءة والإخلاص اللازمين لإدارة شؤون البلاد. إلا أنه نوّه بقوة إلى عدم نيّته في التفاوض مع الجهات التي تخون المؤسسة العسكرية، علماً أن هذه المؤسسة وجّهت الاتهام مباشرة إلى تورط المجتمع المدني في الحركة الانقلابية، وهو أمر يشوبه الكثير من التوجّس والأسئلة لأن المدنيين لا يملكون السلاح ليرفعوه في وجه السلطة القائمة!
الولايات المتحدة التي دعمت الانتقال السياسي السلس في السودان وأزالت اسمه عن قائمة الإرهاب لتسمح بتدفّق المساعدات إلى البلاد التي كانت ترزح خلال حكم البشير تحت طائلة العقوبات وتيسّر حركة السوق الداخلي والاستثمار كرافعة للاقتصاد السوداني الذي يشهد تدهوراً مقلقاً، سارعت في بيان رسمي صدر عن وزارة الخارجية الأميركية إلى إدانة المحاولة الانقلابية الفاشلة من طرف “جهات عسكرية ومدنية مارقة بهدف الاستيلاء على السلطة من الحكومة الانتقالية بقيادة مدنية في السودان” كما جاء في البيان.
تخشى واشنطن من انعكاسات الانقلاب على مسيرة الحرية والعدالة في السودان التي أرادها الشعب شعاراً وهدفاً لخروجه الكبير ضد حكم البشير ومنظومة الاستبداد التي ترسّخت لعقود عديدة من الفساد الحكومي والاضطهاد السياسي وتغييب حقوق الإنسان بشكل كامل، هذا ناهيك عن إمكانية تعريض الدعم الدولي الذي يتلقاه السودان لتمكين تقدّمه في عملية التغيير الديمقراطي لخطر الانكماش، إلى جانب الانتكاسة التي من الممكن أن تؤثر سلباً على العلاقات الحيوية بين واشنطن والخرطوم.
الطرف المدني في المجلس الانتقالي يستشعر محاولة العسكر الانفراد بالسلطة، وهو في الوقت عينه يرفض بصورة مطلقة وصاية الجيش على العملية السياسية في البلاد
فالولايات المتحدة كانت قد حشدت، بالتعاون مع مجموعة فاعلة من الجهات الدولية، لتوفير مساعدات نوعية متواصلة بهدف تحسين الأوضاع الاقتصادية والأمنية في السودان. وهي إذ تستمر في حشد الجهود لدعم الانتقال المستمر، تشدّد على حتمية أن يصير هذا الانتقال إلى قيادة مدنية ستدعم تحقيق العدالة والمساءلة عن الانتهاكات لحقوق الإنسان السوداني.
الطرف المدني في المجلس الانتقالي يستشعر محاولة العسكر الانفراد بالسلطة، وهو في الوقت عينه يرفض بصورة مطلقة وصاية الجيش على العملية السياسية في البلاد. في حين لم يتراجع العسكر عن توجيه الاتهام المباشر للقاعدة المدنية في تهيئة الموقدة لإشعال فتيل الانقلاب، ناهيك عن توجيه المسؤولية الكاملة للجناح المدني في المجلس عن تدهور الحالة الاقتصادية والمعيشية للشعب السوداني.
محمد الفكي سليمان، العضو الذي يمثّل المكون المدني في مجلس السيادة السوداني، كان واضحاً وجريئاً في اتهامه للشركاء العسكريين في السلطة الانتقالية بمحاولتهم تعديل كفة الحكم لحسابهم حيث صرّح “محاولة تغيير المعادلة السياسية هي الانقلاب الحقيقي الذي جاء على صورة انقلاب أبيض”.
أما الدراما التي رافقت مشهد إعلان السلطات في الخرطوم بواسطة وكالة الأنباء الرسمية السودانية أن عسكريين دخلوا فجر الثلاثاء 21 سبتمبر إلى مقر الإذاعة لبث بيان الانقلاب وأن المحاولة أُجهضت فوراً وأن المتهمين بالمشاركة في المحاولة الانقلابية من مدنيين وعسكريين قد تمّ اعتقالهم، فقد أثارت الكثير من الأسئلة عن هذه الطريقة التقليدية الممجوجة من سيناريو الانقلابات التي عرفتها غير دولة عربية في ستينات وسبعينات القرن الفائت.
وفي غياب تحقيقات علنية مع المتهمين، واستفحال الأزمة بين جناحي المجلس السيادي وإمعان بعض من أعضائه في توجيه اللوم إلى الطرف الآخر في غياب دلائل قوية عن الرأس المدبّر للعملية الانقلابية، يبقى مصير الانتقال الديمقراطي معلّقاً على مشجب الاتهامات والغموض العام الذي يضفي على الحالة السياسية والأمنية توجساً عظيماً من الأسوأ القادم.
ضبابية الموقف تضفي شعوراً عظيماً بالقلق وانعدام الثقة بين الأطراف صاحبة القرار في البلاد، في حين تغيب المصلحة العامة للمواطن السوداني الذي طالت معاناته لتحلّ مكانها الغيبيات السياسية والتصريحات الكيدية صابّةً الزيت على النار، رافعةً من منسوب الاحتقان المجتمعي في غياب واجب المكاشفة مع جموع الشعب الثائر وانعدام النوايا في مصالحة بينية بين أعضاء المجلس الانتقالي – الحارس “الأمين” على الثورة.