الافتقاد لتدابير الإنفاق سمة شائعة داخل الأسر الجزائرية في رمضان

تختلف عادات الجزائريين في شهر رمضان الكريم بشكل كبير عن باقي الشهور الأخرى. فبين الالتزام بالتقاليد والأعراف وبين تداعيات العولمة، حولت تصرفات قسم من الناس المجتمع المتضامن والمتماسك إلى مجتمع مستهلك ليبرالي ما جعله يتخلى عن الكثير من مبادئه وميزاته. وقد ساهمت بعض الأسر عن قصد منها أو دونه في الانحياز إلى نمط الاستهلاك المفرط والتبذير ما غيّب مبدأي التضامن ومساعدة الفقراء عن رمضان هذا العام.
الجزائر- يقول البعض من العارفين والمختصين إن تغير سلوكيات المجتمعات يعكس تطورها المستمر، وما يحدث في الجزائر يقع في كل دول العالم دون استثناء سواء كان ذلك في الاتجاه الإيجابي أو السلبي.
لكن المجتمع الجزائري عرف منذ القدم بصور التضامن والتآزر والتسابق لمساعدة الفقراء خاصة في رمضان، بيد أن هذه المظاهر بدأت تزول شيئا فشيئا لصالح سلوكيات كانت إلى وقت قريب من الأفعال “المحرمة” أو المنبوذة، في حين يوصف أصحابها بـ” الخارجين عن الملة”.
عندما يدعو رئيس البلاد عبدالمجيد تبون في خطاب التهنئة بقدوم الشهر المبارك، الجزائريين إلى “تقوية أواصر الأخوة اعتزازا واقتداء بأجدادنا والابتعاد عن الاستهلاك المفرط والتبذير”، فإن هذا ليس من باب ممارسة السياسة فقط بل يؤكد أيضا التحولات الكبيرة التي طرأت على المجتمع عاما بعد عام.

التفكير في ترشيد النفقات يحتاج إلى المهارة والتحكم في المصاريف
ليس فقط السماسرة من التجار وغير التجار الذين قادهم الجشع والطمع إلى رفع الأسعار وجعلها في مستويات قياسية لا ترحم الفقير ولا الضعيف ولا حتى منتسبي الطبقة المتوسطة الذين يشكلون غالبية المجتمع الجزائري، من تسببوا في انهيار القدرة الشرائية وسلم القيم الاجتماعية معا، وإنما أيضا حتى مواقف العائلات التي ساهمت بعلم أو دونه في ما يحدث من “انقلاب” على الأعراف والتقاليد وحتى مخالفة الشرع والدين.
يقول محمد أيمن، أستاذ علم الاجتماع، في تصريح لوكالة الأنباء الألمانية إن الحديث عن علاقة الأسرة بالاقتصاد هو بالضرورة حديث عن ترشيد الإنفاق وتوجيه الاستهلاك، متسائلا في نفس الوقت عمن يكون الفرد المسؤول، هل هو الأب أم الأم أم كلاهما معا؟ أو هل أن الميزانية هي التي تفرض منطقها في النهاية؟
ويتحدث أيمن عما يسميه بالتيسير النموذجي، فيربط نجاحه بضبط قاعدة البيانات الصحيحة الصادقة، وتفعيل كل الأولويات، وتحريك مشاعر أفراد الأسرة خاصة الأبناء، على أن يتم تحديد الأهداف والمبتغى للحياة الأسرية اقتصاديا ثم يكون الاتفاق بين الوالدين.
ويبرز أن التفكير في ترشيد النفقات يحتاج إلى المهارة والتحكم في المصاريف الذي أصبح فنا من فنون الحياه، فيبدأ من مشاركة كل أفراد الأسرة أو معظمهم في التخطيط المبكر، والقصد من ذلك التفاهم والتراضي في حالة الضغط والأزمة المالية، والاستعداد والتجهز لمواجهة مصاعب الحياة اليومية سواء في شهر رمضان أو غيره مع الرضى بالقليل والاقتناع بالموجود.

التغييرات السياسية التي تعيشها الجزائر منذ ربيع 2019 لم يواكبها أي تحسن في حياة الناس
ولا يمكن للحكومة أو لأجهزة الدولة الأخرى فرض نمط معيشي معين على الناس لأن ذلك سيعتبر تدخلا في الحياة الفردية، لكن من واجب هذه الدولة السهر على توفير كل ما يحتاجه هؤلاء المواطنون وضبط آليات مراقبة الأسعار في الأسواق وردع المضاربين بكل قوة حتى يكونوا عبرة لغيرهم.
فضعف الدولة والتقصير في أداء الدور المنوط بها هما ما يمكّن الباحثين عن الربح السريع والخارجين عن القانون من إحداث الفوضى وحتى اضطرابات اجتماعية قد تؤدي إلى أعمال عنف وعمليات تخريبية، قد تخرج عن السيطرة.
يعتبر كمال، وهو موظف حكومي، أن ضعف الاقتصاد الجزائري، واعتماده بشكل مفرط على ريع النفط والغاز، لم يترك للدولة هامشا مريحا لتحسين الظروف المعيشية للمواطنين وتحقيق رفاهيتهم، وهو ما دفع بالبعض منهم إلى تحين الفرص من أجل كسب المال والثراء السريع على حساب بقية المواطنين، مؤكدا أن التغييرات السياسية التي تعيشها الجزائر منذ ربيع 2019، لم يواكبها أي تحسن في حياة الناس.
لكن الحركية التي يشهدها المجتمع وتأثره بما تبثه وسائل الإعلام وتنشره وسائط التواصل الاجتماعي جعلا الأمور صعبة على الأسر التي باتت تتنافس في ما بينها وتتباهى، حتى لو كان ذلك خارج قدرتها المالية أو مخالفا لعاداتها وتقاليدها.
لذلك لم يعد مفاجئا أن يقوم بعض الجزائريين اليوم بتصوير مائدة الإفطار وهي مليئة بما لذ وطاب وكل ما تشتهي الأنفس، ويقومون بـ”الترويج والتسويق” لها على مواقع التواصل الاجتماعي، في حين أن مئات الآلاف أو ربما الملايين من بني جلدتهم لم يجدوا ما يروي ظمأهم أو ما يسدون به جوعهم، لكن هذا التصرف قوبل باستهجان كبير من طرف مواطنين آخرين أطلقوا حملة تحت عنوان “لا تصور مائدة إفطارك” بدعوى أن هذا لا ينسجم مع الصورة الحقيقية للمجتمع الجزائري، الذي يقوم على التضامن وعدم المس بمشاعر الفقراء والمعوزين.

التسابق على الأسواق والفضاءات التجارية والمحال لاقتناء كل ما هو متاح
يجزم مراد، وهو مواطن تجاوز العقد الرابع من العمر، بأن الكثير من الناس يرتكبون خطأ في التعامل مع شهر رمضان، ظنا منهم أنه شهر لمنافسة مفتوحة في الشراب والطعام، وقد تحول ذلك إلى ظاهرة للعيان من خلال التسابق على الأسواق والفضاءات التجارية والمحال لاقتناء كل ما هو متاح.
وينبه مراد إلى المظاهر المقززة الناجمة عن الأطنان من فضلات المأكولات وشتى أنواع الطعام التي ترمى يوميا في القمامات، التي أصبحت مكانا مفضلا لمن لم يجد ما يقتات به هو وأسرته.
ولم تعد هذه التصرفات حكرا على سكان المدن الكبرى التي توصف بأنها خليط من مختلف طبقات المجتمع، بل امتدت إلى المدن الصغيرة والقرى التي كان يسود الاعتقاد بشأنها أنها محصنة من مخاطر العولمة، فبات المشهد هو نفسه مع اختلاف بسيط في كون الفقير أو المحتاج يسعى بكل ما أوتي من قوة للحفاظ على كرامته ولا يظهر “ضعفه وعجزه” للآخرين.
من يقاسم يوميات بعض الجزائريين في شهر رمضان يلاحظ بسرعة التناقض الصارخ في تصرفاتهم بين الليل والنهار، فتراهم خلال معظم ساعات الصيام يأتون مواقف وسلوكيات غير مبررة وغير مفهومة وبعصبية مفرطة، سواء كان ذلك في الطريق العام أو في الأسواق وحتى في بقية الأماكن الأخرى، فنشاهد تلاسنات هنا وشجارات هناك وصدامات عنيفة حتى بين أفراد العائلة الواحدة في وضح النهار.
المجتمع الجزائري عرف منذ القدم بصور التضامن والتآزر خاصة في رمضان بيد أن هذه المظاهر بدأت تزول شيئا فشيئا لصالح سلوكيات كانت إلى وقت قريب من الأفعال "المحرمة"
لكن ما إن ينقضي موعد الإفطار تتبدل الصورة كثيرا، فيتسابق الكثير منهم نحو المساجد لأداء صلاة التراويح، حيث يكون من الصعب على المتأخر إيجاد مكان “ملائم” داخل بيوت الله، خاصة في ظل القيود التي فرضها انتشار جائحة كورونا كالتباعد الجسدي، حينها تظهر السكينة والطيبة على وجوه الكثير من الناس، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن الشخصية الحقيقية للجزائري، هل هو ذلك المعروف بالنهار، أم أن صورته النمطية هي التي تظهر بعد الإفطار؟
يرفض محمد أيمن الحديث عن انفصام في الشخصية لتفسير سلوكيات البعض من أبناء بلده، ويؤكد أنها حالة طبيعية لا تختص بالجزائر فقط. كما يشدد على أنه لا يجب التركيز عليها بدعوى أن هناك نماذج “ناجحة” لم تتأثر بالمظاهر السلبية للعولمة، مقابل توفيقها في الحفاظ على توازنها داخل منظومة المجتمع من خلال الالتزام بمبادئه وأعرافه والتصرف بانضباط وعقلانية وهدوء، بعيدا عن كل ما هو مضر للصالح العام والتماسك الاجتماعي.