الاستفادة من أزمة الغلاء في الجزائر بدل البكاء أمامها

نظرية المؤامرة في التعاطي مع المتلاعبين بقوت الشعب هي التي جعلت المزارعين يخشون على أنفسهم من تخزين منتوجهم لأن أحكام المضاربة يمكن أن تصل إلى جناية عقوبتها 30 عاما سجنا نافذا.
السبت 2023/04/15
إجراءات حكومية عقيمة

اختفى السميد وعاد، واختفى قبله الزيت ثم عاد خلال أسابيع قليلة فقط، والأمر ينسحب على العديد من المواد الغذائية في الجزائر. وفوق ذلك التهبت الأسعار إلى أن صار البصل يبكي الرجال في الأسواق، كما يبكي النسوة في المطابخ، بحسب تعبير الجزائريين.

مشكلة الأسعار في الجزائر تحديدا تحتمل أكثر من تأويل، عكس الفرضيات القائلة بالموجة العالمية التي بدأت بجائحة كورونا، ثم الأزمة الأوكرانية، ثم التغيرات المناخية والجفاف الذي يضرب قطاعا كبيرا من العالم، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

ومنذ أيام فقط تحدث تقرير أممي عن أزمة بصل في العالم، وأدرج الجزائر ضمن الدول المتضررة، لكن خطاب الحكومة لم يستفد إلى حد الآن من الظروف العالمية القاهرة، لقناعة لديها أنها لا تستطيع إقناع الشارع الجزائري بها، لأن الاختلالات الداخلية تحجب الرؤية عن كل شيء، وهي التي جعلت الغلاء غلاءين.

الغلاء لا يواجه بسياسات حكومية فاشلة تعتمد التعتيم والبيروقراطية في إدارة الاقتصاد، وتكبل الإنتاج المتاح في مختلف القطاعات

وبين اجتماعية الدولة وتغيرات الواقع يضيق الخناق على عنق الحكومة، فهي عندما تغازل الجبهة الاجتماعية وتريد شراء السلم الاجتماعي، وتبرر لجوءها إلى الريع النفطي، ترفع قدسية اجتماعية الدولة، وعندما تحاول ملامسة الواقعية الاقتصادية تلوح بتغيير نمط ووجهة الدعم الاجتماعي، لكنها في الحالتين فشلت لأنها تفتقد إلى الشجاعة السياسية اللازمة في الدفاع عن الخيارات البراغماتية.

مبدأ “إقامة دولة ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية”، الذي تصدر بيان إعلان ثورة التحرير في الفاتح من نوفمبر 1954، يحتاج إلى قراءة منطقية وواقعية جديدة، بدل تحويله إلى عباءة لإخفاء تبذير وتبديد المال العام تحت مسمى العدالة الاجتماعية وتكفل الدولة بجميع مواطنيها، لأن الذي بلور البيان ربط الديمقراطية بالاجتماعية، وأولى شروط العدالة الاجتماعية هي الرقابة وتوازن السلطات والمؤسسات، والاقتصاد القوي الذي يوفر منصب الشغل ويخلق الثروة، للقضاء على الفقر والفوارق الاجتماعية، وليس التعاطي مع بعض الجزائريين كقصر أو عبء يحتاج إلى رأفة الحكومة، في المواسم الاجتماعية والدينية وحتى على مدار العام.

الغلاء الفاحش في الجزائر في حاجة إلى شجاعة سياسية للاعتراف بأسبابه الحقيقية، وإذا كانت هناك ظروف عالمية وراء ذلك، والجزائر ليست جزيرة تعيش بمعزل عن العالم، فإن السياسات الحكومية المتعاقبة لها يد في ذلك، وربما هي اليد الطولى.. ببساطة يمكن للحكومة أن تعكس الهجوم على التقرير الأممي حول البصل، وتحول البلد إلى مصدر تغذية العالم بالبصل.

البلد “القارة” كما يوصف، وأول بلدان أفريقيا مساحة، والعاشر عالميا، لا يمكن أن يعيش أزمة غلاء شامل لو توفرت الحكمة والرشد لدى الحكومات المتعاقبة، وأول شروط ذلك هو التعامل بصراحة وواقعية مع الظاهرة. وببساطة، ارتفاع أسعار الطاقة سيقابله ارتفاع في المواد الأخرى، والمسير الذكي والناجح هو الذي يخلق التوازن بين ما بيديه وما في أيدي غيره.

هناك فرق بين الندرة والتقشف الخانق، وبين محاربة الاحتكار والمضاربة غير المشروعة، والاقتصاد تحكمه قواعده وليس قواعد الإدارة والبيروقراطية، ولعل أبرز دليل على ذلك، أنه منذ أشهر قليلة كان تقليص الواردات وإدارة التجارة الخارجية بوزارة التجارة، والآن بات الكل ضد ذلك، بمن فيهم رأي الجيوش الإلكترونية الغبية ومحللو “البلاتوهات التلفزيونية”.

العارفون بشؤون الاقتصاد يلحون دائما على ضرورة التوافق على أسعار دولية ترضي المنتج والمستهلك معا، سواء في الطاقة أو في غيرها

البصل في الجزائر هو أبخس الخضار ثمنا منذ الأزل وأسهلها زراعة، سقيا أو بغير سقي، في الصحراء كما في الهضاب والسواحل، في المساحات الكبرى وحتى في باحات المنازل، فالأمر لا يحتاج سوى وضع البذرة أو النبتة على رأسها في الأرض وسط درجة حرارة ملائمة.

لكن نظرية المؤامرة والمقاربة الأمنية في التعاطي مع المتلاعبين بقوت الشعب كما تردد الحكومة، هي التي جعلت المزارعين يخشون على أنفسهم من تخزين منتوجهم، لأن أحكام المضاربة يمكن أن تصل إلى جناية عقوبتها 30 عاما سجنا نافذا بحسب تأكيد رئيس الدولة نفسه.

قبل إطلاق تشريع الاحتكار والمضاربة لم يتم التفكير على ما يبدو في آليات وسلسلة الإنتاج الزراعي، إلى درجة صار معها المزارع يكتفي بمحصول قابل للتسويق في وقته، فشبهة الاحتكار والمضاربة تحول دون التخزين، ومنه تبدأ الندرة، وبالندرة ترتفع الأسعار وتتحول إلى أزمة ونقاش عقيم وتقاذف للمسؤوليات، ليتراكم ذلك على ما هو قائم في الأسواق الدولية.

العارفون بشؤون الاقتصاد يلحون دائما على ضرورة التوافق على أسعار دولية ترضي المنتج والمستهلك معا، سواء في الطاقة أو في غيرها، لأن أي اختلال فيها سيؤدي حتما إلى أزمة لدى هذا الطرف أو ذاك، والجزائر المرتاحة لأسعار نفط وغاز مرتفعة لا بد أن تقبل بأسعار مرتفعة في المواد الأخرى، والعبرة ليست في الضجيج، وإنما في بلورة مقاربة تدير الوضع بواقعية وبراغماتية.

هناك فرق بين السياسات الاجتماعية وبين تسيير ظاهرة الغلاء، ومن الخطأ معالجة هذا بذاك، وإذا كان العالم يسير إلى موجة تضخم غير مسبوقة، فكلمة السر هي منصب الشغل الجديد والثروة المستحدثة، فالغلاء لا يواجه براتب 200 دولار، أو مقارنة المؤشرات بين ما هو في المنطقة وبين ما هو في أوروبا أو أميركا.

ولا يواجه الغلاء أيضا بسياسات حكومية فاشلة تعتمد التعتيم والبيروقراطية في إدارة الاقتصاد، وتكبل الإنتاج المتاح في مختلف القطاعات، لأنه يمكن الاستفادة من الأزمات بدل البكاء أمامها، ولعل أزمة البصل خير دليل على ذلك، فالجزائر المدرجة في لائحة الدول المتضررة، يمكن أن تلبي حاجياتها وحاجيات تلك الدول خلال أشهر وليس عام، لو توفر الاستشراف الدقيق والتخطيط الجيد.

9