الاستعصاء الليبي في اجتماع تونس
دخل اتفاق الصخيرات بين الفرقاء الليبيين يوم 17 ديسمبر الماضي عامه الثاني دون أن يفضي إلى تغيير جذري في المشهدين السياسي أو العسكري، ودون أن يؤصل في حده الأدنى لأسس صحيحة وقوية وقويمة لانفراج تام للاستعصاء الليبي الراهن.
المفارقة أن الاتفاق الذي أنيطت بعهدته مهمّة جسر الهوة بين الشرعيات الحاكمة والمستحكمة للمجال الليبي زاد لمشهد التنافر والتجاذب سلطة ثالثة جديدة عجزت عن تأمين الشرعيّة اللازمة لها أو أن تقلل من حدّة التباين الكبير القائم بين الشرق والغرب، لتكون النتيجة ثلاث حكومات متفاوتة الشرعية والمشروعية ورابعها الفشل.
اجتماع دول الجوار الليبي ممثلة في تونس والجزائر ومصر الأحد الماضي في العاصمة التونسية، لم يفض إلى حلول جذرية ولم يقدم مبادرات إجرائية تسمح بحلحلة المعضلة، فبيانات اجتماعاته الدورية تكاد تكون مستنسخة ومنظومة التكلس المعطلة للعمل العربي المشترك انسحبت على أعماله أيضا إلى درجة أنه بات اليوم جزءا حقيقيا من الإشكال الليبي.
الآمال التي عقدت على اتفاق الصخيرات باعتباره أول اتفاق بين الفرقاء الليبيين كانت كبيرة وواسعة للغاية، والتطلعات المبنية على دور السفير اللبناني غسان سلامة باعتباره واحدا من أفضل رجال النخبة الثقافية والسياسية العربية ومن أكثرها توازنا كانت ذات سقف عال، ولكن واقع الحال يشير إلى غير آفاق “أوهام الأحلام”.
مشى غسان سلامة فوق حقول الألغام وسعى إلى إعطاء محادثات التسوية زخما جديدا عبر جولة من المفاوضات الطويلة والشاقة في تونس، إلا أن العقبة الكأداء الممثلة في المادة الثامنة من اتفاق الصخيرات فرضت عليه المراوحة في مكانه التفاوضي وعلى الاتفاق أن يبقى حبرا على ورق. أراد سلامة أن يقوم بعملية التفافية على المادة الثامنة عبر الانتقال مباشرة إلى الحزمة الثانية من الحوار القائمة على عقد مؤتمر وطني تشارك فيه كافة القوى الليبية، قبل الوصول إلى الحزمة الثالثة المبنية على إجراء استفتاء حول الدستور والقيام بانتخابات عامة.
غير أن المادة الثامنة فجرت مبادرات سلامة ومعها جهود كل دول الجوار التي تتحسس خطورة الأوضاع الليبية على حدودها، بل وفي عمق أراضيها.
التلاسن بين المشير خليفة حفتر ورئيس المجلس الرئاسي فايز السراج يجسد بوضوح حالة الجفوة والهوة السحيقة بينهما على خلفية المادة الثامنة، فالأول يعتبر أن اتفاق الصخيرات انتهى بما يحمله هذا التصريح من نزع لشرعية المجلس الرئاسي، فيما يصرّ الثاني على ضرورة أن تكون المؤسسة العسكرية تحت صلاحيات وسلطات وأنظار السلطات المدنية.
إذن لا مؤشرات على حلحلة الاستعصاء الليبي، في الأفق القريب على الأقل، ولعلنا لا نجانب الصواب إن اعتبرنا أن الأزمة في طريقها إلى أن تصبح محنة مغلقة على وقع المشهد الأمني المضطرب عقب التحذيرات التي أطلقتها بعض العواصم الإقليمية بعودة نحو 6 آلاف إرهابي من ميادين القتال في سوريا والعراق إلى ليبيا ومنطقة الساحل الأفريقي.
سبق وأن دعونا غسان سلامة إلى اعتماد المنهج المتوازي في تسوية الحزمات السياسية الثلاث عوضا عن انتهاج مسلكية التراتبية، اليوم ندعوه إلى التوازي في طرق أبواب الحلول عبر التركيز على العواصم الإقليمية المؤثرة في ليبيا بموازاة التقريب في وجهات النظر بين فرقاء الداخل.
جزء من الإشكال موجود في حالة التشظي القائمة بين عواصم القرار والتي تعتمد المشهد الليبي فضاء لتصفية الحسابات والمكـاسرة الإقليمية، وجزء آخر من الحل ومن الإشكال أيضا مكرّس في انعدام الثقة الجزئية الموجودة بين الأطراف الليبية وتمثلها التسوية كحصان طروادة للتمكين السياسي والعسكري الشامل.
اتفاق دول منطقة الساحل الأفريقي المتكونة من مالي والنيجر والتشاد وبوركينا فاسو وموريتانيا الأحد في العاصمة الفرنسية باريس على تكوين قوة عسكرية قوامها 5 آلاف جندي لقتال المجموعات المسلحة المتمركزة بين الصحراء الليبية ومنطقة الساحل الأفريقي، يشير من جملة مدلولاته إلى الوضع الأمني والعسكري الحرج التي تمر به المنطقة ولا سيما عقب عودة المجموعات الإرهابية المسلحة في تلك المنطقة إلى النشاط واستجماع قوتها بعد أن تفرقت على وقع عملية “سرفال” التي نفذتها القوات الفرنسية في مالي عام 2013.
وإن استمرت حالة الجغرافيا الرخوة في الجنوب الليبي والاحتراب العسكري في الشمال، فستجد المجموعات الإرهابية في ليبيا خير ملاذ وملجأ ومعقل لا فقط للتمركز في شمال أفريقيا بل ولاستهداف بلدان الجوار الليبي.
على وقع اجتماع باريس تمّ اجتماع تونس، وبين الاجتماعيْن وعي إقليمي ودولي بضرورة تجاوز حالة الانسداد ووضعية الاستعصاء، وبين الاجتماعين ضرورة ملحة لتغيير الأطراف الليبية جميعها الخطاب والأداء السياسي والبحث الجدي على تسوية سياسية على قاعدة تقديم تنازلات مشتركة لتأصيل ثنائية “رابح رابح”، أفضل من الوصول إلى حالة الإفلاس والخراب التام حيث الكل خاسر وأول الخاسرين ليبيا، الدولة والدور.
كاتب ومحلل سياسي تونسي