الاستثمار في الإفلاس

نوري، شاب قارب سن التقاعد دون وظيفة، أو فلنقل إنه بلغ العشرين ثلاث مرات، وما زال يحلم بالثروة والشهرة والوسامة بلا كلل ولا ملل.
يجلس نوري إلى طاولته في الزاوية، يحوّط نفسه بالزجاجات الصغيرة الخضراء وبعض المتثائبين من الأصدقاء، يخرج من جيبه قلم حبر ذا ريشة ذهبية من تلك التي نراها في توقيع الاتفاقيات الدولية على الشاشات، يطلب من النادل ورقة من ذوات الحجم الكبير.. ويبدأ برسم وشرح مشاريعه للذين يتحلقون حوله.
ما إن تمر دقائق حتى تمتلئ الورقة خطوطا وأسهما وأرقاما عن كيفية تنفيذ وجني أرباح وعوائد استثمارات في مشاريع لا توجد إلا تحت قبعة نوري ذي الرأس الأشيب الأصلع الصغير.
مشاريع عن جمع الزجاج المكسور وإعادة صهره وتصنيعه، مشاريع عن الاستفادة من الصحراء في الطاقة الشمسية ومن ثم تصديرها إلى الشمال الأوروبي ومدن الصقيع بعائدات ربحية طائلة.
مشاريع عن الطاقة المتجددة وكيفية الاستفادة من الرياح والأمواج وروث الأبقار وباقي الفضلات والسوائل والإفرازات البشرية والحيوانية.
كيفية الاستثمار في تربية وتخصيب إناث الأسماك والحلزونات وذكور الأفاعي والخفافيش، وكذلك عصائر العنب والشعير الوفير، مما يدرّ على البلاد ثروة طائلة ويجنبها المديونية والخضوع لإملاءات الصندوق الدولي والبلدان المانحة.
وطفق صديقنا نوري يعرض ويشرح مشاريعه على الطاولة حتى زاغت عيوننا، أوشك قلمه أن يجفّ، وغلبني النعاس على وقع أرقامه التي تقارب مليارات من الدولارات.
رأيت فيما يرى النائم على طاولتنا المسيّجة بالقوارير والأحلام الصغيرة الخضراء، أني صرت واحدا من أعضاء “نادي نوري” للأثرياء المنتفعين من هذه المشاريع العملاقة العابرة للقارات، والمستفيدين من روث الأبقار في الزرائب، وفحيح الأفاعي في الجحور.. والقيظ القانط وصفير الرياح وأنينها في بلادنا الحزينة.
ورأيت جحافل المعطلين عن العمل يستحيلون إلى جيوش منتجة وصانعة للرفاهية، كأن تتحول الثروة السمكية في الأحواض الاصطناعية إلى فائض يمكن توزيعه على المواطنين بصفة مجانية، مضافا إليه كمية من المشروبات الروحية المصنعة من فائض شعير البلاد وعنبها.. وكل ذلك بفضل مشاريع نوري الطموحة.
أما فواتير الماء والكهرباء والغاز والإنترنت فلقد صارت جزءا من الماضي، حتى أن النقود أصبحت تُوزّع من قبل الدولة لغاية صرفها على المتع الشخصية، أما الاحتياجات الضرورية فتتكفل بها صناديق الحكومات.
وهكذا تنتشر وتعم ثقافة “الحق في الكسل” الذي تحدث عنه الفرنسي بول لافارج، رفيق صديقي المناضل اليساري نوري، الذي وخزني بقلمه أن استيقظ لدفع ما تخلد بذمتك من الفاتورة.
ويعقب نوري أنه لا يقدم على هذه المشاريع الضخمة إلا في حالات الإفلاس الشديد.. فمن أين نأتي بمثل هذه المواهب الإنمائية حين ننجح في القضاء على البطالة والإفلاس؟