"الاختيار".. أقبية المخابرات مستودعا للكتابة الدرامية

دولة ضاربة في ثقافة الولاء الوطني والعقيدة العسكرية ينتشر في كل شبر فيها شعار "مصر أولا"، لا يمكنها أن تستهتر بأمنها القومي هذا ما يريد أن يقوله "الاختيار" بجميع أجزائه وتدرّجاته.
الثلاثاء 2022/05/10
الدراما في خدمة الأمن القومي

“المكتوب يبيّن من عنوانه” مثل شعبي يتداوله العرب على مختلف لهجاتهم، رغبة في الغمز بأن عبارات الامتنان والثناء التي يتوجه بها الدراميون عادة، إلى قائمة “المتعاونين على إنجاز العمل”، إنما تشي ـ في حقيقتها ـ بطبيعة ذلك العمل، وهوية المستفيدين من إنتاجه.

لا فائدة لأجهزة الدولة في التعاون من أجل إنجاز عمل فني خدمة للدراما وأصحابها إلا بقدر مصلحتها التي لا شأن لها بالتقييمات النقدية على الصحف والشاشات.. هذا مما لا يشك فيه.

المسلسل المصري “الاختيار” في موسمه الثالث، جاء يعج بكلمات الشكر لضباط وعناصر الجيش المصري ورجال الأمن والمخابرات، من المساهمين في “إنجاح العمل” وذلك قبل الطاقم الفني نفسه أي على غير العادة المعمول بها في تقديم صنّاع العمل.

هذا الأمر دفع بمجلة “ذي إيكونوميست” البريطانية في عددها الصادر السبت الماضي، إلى وصفه بـ”الدراما الباذخة التي حاولت حشد المصريين بذكريات أيام كئيبة”، مضيفة أنه لا يخرج من دائرة البروباغندا السياسية التي تروج للرئيس عبدالفتاح السيسي، وإطاحته بحكم الإخوان في يوليو 2013، والذين يظهرهم المسلسل كجماعة من المتآمرين على مصالح الشعب، في حين يراهم محرر الصفحة “أول حكومة ديمقراطية منتخبة في تاريخ مصر”.

لم يتوان “الاختيار 3” عن كشف وفضح الدولة العميقة لألاعيب الإسلاميين بصرف النظر عن صاحب المصلحة في قمعهم ومحاربتهم

وبصرف النظر عن اللغط الذي دار بخصوص هذا العمل الدرامي الذي يجسد ـ ولأول مرة في تاريخ مصر والعالم العربي ـ شخصية حاكم لا يزال على قيد الرئاسة والحياة، فإن المسلسل جذب الجميع إليه بمفاجأة تجسيد الشخصيات الأهم في هذه الفترة وعلى رأسها الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، والفريق أول عبدالفتاح السيسي، في منصبي مدير المخابرات الحربية ووزير الدفاع، ومعظم قيادات جماعة الإخوان الإرهابية، وبينهم مرشد الجماعة محمد بديع ونائبه خيرت الشاطر.

يكفي أن تكون هذه الخاصية سبقا إعلاميا ودراميا حتى يتجمع حوله الموالون والمعارضون لحكم السيسي، وكذلك غيرهم من الفضوليين.. وبغض النظر عن طبيعة المعالجة وخلفياتها السياسية.

ما غذّى هذا الأمر وجعل منه حدثا سياسيا واجتماعيا قبل أن يكون منجزا فنيا، هو تسريب الجهات الأمنية لأحداث كشفت صراعا قويا بين التيارات الإسلامية خاصة خلال الانتخابات الرئاسية 2012، كما فضحت عداء قيادات جماعة الإخوان لمصر وتهديدهم بإراقة الدماء ومواجهة القوات المسلحة المصرية في حال عدم السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد.

هذا التسريب من شأنه أن يريح كاتب السيناريو ويمده بحقائق لا تحتاج إلى شطحات خيال، لكنه يوقع صناع العمل في مأزق يتعلق بالمصداقية في التوثيق، لكن الإجابة تأتي دائما في شكل صورة لا غبار عليها، وهي أن ما يرد يأتي على ذمة المخابرات المصرية.. وهو أمر لا يحتمل التشكيك عادة، ولا يمكن إدراجه بسهولة في خانة الدعاية السياسية.

وهنا، يمكن للمرء أن يرمي بادعاء المجلة البريطانية أدراج الريح، من حيث إتيان العمل على “شكر الجهات المتعاونة” من سلطات رسمية، ذلك أن الأمر معمول به ومتعارف عليه لدى صناع السينما والتلفزيون في أوروبا والولايات المتحدة.

أين المشكلة في الاستئناس بملفات المخابرات التي تسهم في صنع عمل درامي؟.. يقول قائل، لكن السؤال يتشعب حين يتعلق الموضوع برئيس مازال في سدة الحكم، وتثار حوله الأسئلة عن قضايا لا تزال راهنة وطازجة.. وليست عن مرحلة طواها التاريخ، وحقّ للإعلام من بعدها، محاكمتها وتناولها بعد أن فعل فيها الزمن فعله.

صحيح أن كل حاكم في الجمهوريات العربية “يجبّ ما قبله”، لكنه ليس “رمية من دون رامي”، ولا طيرا يغرد خارج سرب ما تريده الدولة وتقرره في عمقها السلطوي والسيادي، مهما كانت الأمزجة والتقلبات.

إلى أي مدى تخدم الدولة العميقة وملفاتها السرية الدراما الفنية، وهل العكس هو صحيح؟ سؤال في ذمة التاريخ النقدي لهذا الفن الذي لم يعلن تحرره واستقلاليته بعد

إن دولة ضاربة في ثقافة الولاء الوطني والعقيدة العسكرية مثل مصر التي ينتشر في كل شبر فيها شعار “مصر أولا”، لا يمكنها، بأي حال من الأحوال، أن تستهتر بأمنها القومي وتجعله في متناول حفنة من طلاب السلطة باسم الدين.. هذا ما يريد أن يقوله “الاختيار” بجميع أجزائه وتدرجاته، وبصرف النظر عمن يحكم اليوم أو غدا.

لم يتوان “الاختيار 3” عن كشف وفضح الدولة العميقة لألاعيب الإسلاميين بصرف النظر عن صاحب المصلحة في قمعهم ومحاربتهم كالمقطع الذي يظهر دخول قيادات من تنظيم القاعدة إلى مصر بعلم جماعة الإخوان، ويظهر في الفيديو نائب مرشد جماعة الإخوان خيرت الشاطر، وهو يتحدث عن العمليات الإرهابية في مصر مع ظهور حازم صلاح أبوإسماعيل، أي أن الأمر يتجاوز شخص السيسي وطموحه في السلطة.

السؤال الأكثر وجاهة، هو إلى أي مدى يمكن التحدث عن مفهوم “الدولة العميقة” في ظل غياب الديمقراطية والدولة الراعية للدستور؟ وإذا كان الأمر يتعلق بالحديث عن شعارات هلامية وفضفاضة كـ”هيبة الدولة”، فإننا سنقع في نموذج مسلسل “وادي الذئاب” الذي روّج لحكم رجب طيب أردوغان، زعيم الحزب الإخواني التركي، ثم زاد عن ذلك كتاب “قصة زعيم” لحسين بسلي وعمر أوزباي، في عملية “اغتصاب” للتاريخ باسم الدولة العميقة.

الأمر تكرر في أكثر من عصر ومصر كما يقال، لكن ما يجب التفريق بينهما هما الدولة العميقة بحسّها الوطني القائم على المسؤولية التاريخية والدستورية في الضمانات الأخلاقية، وبين “الدولة الغميقة” (بتنقيط الغين) التي تسيّر في أقبية المخابرات في ما يشبه أعمال المافيا والميليشيات كما هو الحال في إيران مثلا.

لعل المتضررين من الجدل حول مسلسل “الاختيار” هم صناعه الفنيون الذين تناساهم الجدل السياسي وغفل عن إبداعاتهم في زحمة التشكيك وتبادل الاتهامات، لكن شهادة الرئيس السيسي، بعد مشاهدة المسلسل لا تتحدث باسم الممثل الذي قام بدوره أو تقيّم مدى استيعابه للشخصية، إنما تؤكد أن تنظيم الإخوان هدد المصريين والدولة المصرية بشكل مباشر، موضحّا أن ما تم عرضه في مسلسل “الاختيار” كان واقعا في ذلك الوقت.

إلى أي مدى تخدم الدولة العميقة وملفاتها السرية الدراما الفنية، وهل العكس هو صحيح؟ سؤال في ذمة التاريخ النقدي لهذا الفن الذي لم يعلن تحرره واستقلاليته بعد.

8