الإنسان يستعين بالسرد لتحديد هويته

مختبر الأنثروبولوجيا في لبنان ينظم ندوة فكرية عن "الهوية السارية" يحلل خلالها باحثون أسرار الهوية وتمظهراتها.
الجمعة 2021/01/15
الهوية فردية وليست ثابتة (لوحة للفنان طلال معلا)

بيروت- افتتح مختبر الأنثروبولوجيا في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية باكورة نشاطاته العلمية، برئاسة منسقة المختبر لبنى طربيه، بندوة عن “الهوية السارية”، في حضور عميدة المعهد مارلين حيدر، ورئيس مركز الأبحاث في المعهد حسين أبورضا وطلاب من مختلف الاختصاصات.

أدارت الندوة مسؤولة الإعلام في مركز أبحاث معهد العلوم الاجتماعية وعضو مختبر الأنثروبولوجيا في المركز الأكاديمية ليلى شمس الدين، واستهلتها بالترحيب بالحضور، ومن ثم قدمت كلّا من المتحدثين والمشاركين في الندوة.

علي الديري: هذا المصطلح لفت انتباهنا إلى أن هذا الإنسان يضع دائما تعريفه لنفسه في شكل حكاية
علي الديري: هذا المصطلح لفت انتباهنا إلى أن هذا الإنسان يضع دائما تعريفه لنفسه في شكل حكاية

ثم تحدثت حيدر مؤكدة أن “مختبر الأنثروبولوجيا يناقش موضوعا بغاية الأهمية، وهو موضوع الهوية الذي يستحضر على بساط البحث، ونستشعر بأهمية هذا الطرح خصوصا عند خطر فقداننا لها، وعند اهتزاز علاقتنا بها”، معتبرة أن “الحديث مع متخصصين بهذا المجال لا شك يشكل غنى معرفيا”.

بدوره، أشار أبورضا إلى أن “الرؤى المعرفية وأهدافها الواسعة التي تقوم عليها رسالة مركز الأبحاث، بحاجة إلى دراسات معمقة لمختلف الظواهر الاجتماعية داخل المجتمع اللبناني، تبدأ من الهوية الفردية والانتماء الوطني، وتقارب مدى التفاعل بين أفراد المجتمع واندماجهم فيه”، معتبرا “أن هذه الدراسات يجب أن تكون علمية مرتكزة على النظريات الاجتماعية التي تراكمت عبر التاريخ، وضمن البنى والنظم الاجتماعية داخل الحقل المجتمعي“.

وقال أبورضا “تعتبر الأنثروبولوجيا من العلوم الأساسية والمهمة في دراسة المجتمعات من خلال أبعادها التنموية والثقافية والسياسية والتربوية والحضرية، والعادات ونظم القرابة وغيرها ومن مفاهيم التضامن والاندماج والتفاعل والهوية”.

وأشار إلى “أنه منذ بواكير الفكر الفلسفي، ارتبط مفهوم الهوية بأمور ومجالات متعدّدة، ضمن أشكال متنوّعة يمكن تضمينها في مسارين، الأول: جوهراني يستند إلى الإيمان بحقائق جوهرية، وبماهيات ساكنة وأصيلة في آن. والثاني: وجودي يرفض الاعتراف بوجود اختلافات نوعية مسبقة ودائمة بين الأفراد. بل يرفض الاعتراف بتبدل هذه الاختلافات وتحولها على مدى التاريخ الجماعي والفردي”.

وتناول الباحث المقاربات الحديثة لمفهوم الهوية في خضم النكبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، معتبرا أننا “نعيش اليوم لحظات مفصلية، ولدت أنماطا جديدة من التحولات الاجتماعية والأخلاقية، ومست الرابط الاجتماعي والأصالة والهوية. الأمر الذي ألح على الأنثروبولوجيين العمل على تفسيرها بالاعتماد على براديغمات جديدة متجاوزين تناقضات الرأسمالية وديناميتها الخاصة والنظريات الاجتماعية المتصارعة، وبالتالي أصبح مفهوم الهوية محط تساؤل من خلال الحداثة وتأثيراتها على الأفراد وانتماءاتهم الثقافية والأيديولوجية والاجتماعية”. وأضاف “أن أهمية هذه الدعوة وهذه الندوة ترتكز على إماطة اللثام عن بعض الأفكار المتعلّقة بالهوية السارية”.

مارلين حيدر: نستشعر بأهمية هذا الطرح خصوصا عند خطر فقداننا لها
مارلين حيدر: نستشعر بأهمية هذا الطرح خصوصا عند خطر فقداننا لها

أما طربيه فأشارت إلى أن “اللقاء هو انطلاق لعمل مختبر الأنثروبولوجيا هذا العام، ونحن نسعى إلى تفعيل العمل البحثي عبر تشجيع الاتجاهات البحثية المختلفة للأساتذة وتبني مشاريعهم مقدمين الدعم بحدود ما تتيحه لنا إمكانيات المختبر”.

وأكدت أن الغاية من ذلك هي “السعي لدعم التطور المعرفي للباحثين والطلاب من خلال مختبر الأنثروبولوجيا، عبر استضافة باحثين من العالم العربي وغيره، من الذين ينجزون أبحاثا ودراسات أنثروبولوجية تستهدف العالم العربي بشكل عام، ولبنان بشكل خاص، بهدف المساهمة في التشارك المعرفي كما في إرساء ثقافة التبادل العلمي بين الباحثين بهدف دعم الإنتاج المعرفي“.

واعتبرت أن للطلاب أيضا نصيبهم الوافر في خطة عمل المختبر، قائلة “نهدف إلى تحفيزهم من خلال إشراكهم في الأعمال البحثية التي يقوم بها أساتذة المختبر، والتي سنستهلها قريبا بعمل بحثي حول ذاكرة المدينة”، وتوقعت تحول مختبر الأنثروبولوجيا إلى خلية فاعلة تستطيع رفد الطلاب بالمعرفة والتقنيات المرتبطة بالأنثروبولوجيا”. وختمت معتبرة أن “الإشكالية الأساسية في المقاربات الأنثروبولوجية للهوية تكمن في مقاربتها للهوية كمصدر للحمة الاجتماعية، أو حتى كمصدر للنزاعات”.

من جهته اعتبر الباحث البحريني علي الديري أن “مقاربته موضوع الهوية تنطلق من مفهوم الهوية السردية، أو الهوية القصصية عند المفكّر والفيلسوف الفرنسي بول ريكور”، ملخصا ما كتبه ريكور عن أن الهوية هي محاولة للتعريف عن الإنسان نفسه، أو تعريف لجماعته، وبالتالي تعريف وجوده في هذا العالم.

وأشار الباحث “إلى أن هذا المصطلح لفت انتباهنا إلى أن هذا الإنسان يستعين بالسرد، بالقصة وبالحكاية، فهو يضع دائما تعريفه لنفسه في شكل حكاية. فإذا ما استطعنا أن نحلل هذا السرد، ونحلل حبكة هذه القصص فسنفهم هوية هذا الإنسان، سنرى كيف ينظر إلى هذا العالم، وكيف يفسر وجوده فيه، وكيف يفسر علاقته بالكون، وكيف يفسر علاقته بالإنسان الآخر، وبالجماعات الأخرى وبالتاريخ الذي يعيشه، وبالتالي أمدتنا هذه الفلسفة بمفتاح مهم جدا لنفهم البشر والجماعات”.

حسين أبورضا: تعتبر الأنثروبولوجيا من العلوم الأساسية والمهمة في دراسة المجتمعات
حسين أبورضا: تعتبر الأنثروبولوجيا من العلوم الأساسية والمهمة في دراسة المجتمعات

وتناول الهوية السارية عند ابن عربي، الذي وجد في عصره الاحتدام الطائفي والتكفير على أشده، مستعرضا “طرح ابن عربي الذي دعا من خلاله العلماء إلى فهم جديد للدائرة الإنسانية التي تشمل كل البشر من خلال ما سمي بوحدة الوجود في تأويل الأسماء الإلهية تأويلا يتسع للجميع”.

وقال “نظرية ابن عربي في الأسماء الإلهية أراد من خلالها أن يستبدل القتل والحرب والتكفير والتخندق، بالقبول والاتساع والوسع. وبالتالي فهوية الإنسان لا بد وأن تكون متغيّرة ومتحوّلة ومنبسطة ومتسعة وغير منقبضة في آن ليتحقق وجود الإنسان الفاعل. فالهوية المتحققة مختلفة لأن تجلياتها متغيرة، وهي تتجلى بحسب طاقة الإنسان، وبحسب ما يملكه. فالإنسان هو من ينزلها، وليست هي من تنزل عليه، لذلك عليك أن تسأل حولها، تقلبها، تغيرها، تؤوّلها ومن ثم تنتج هويتك التي تريد”.

وتوقف “عند مفهوم الهوية السائلة عند عالم الاجتماع البولندي باومان، الذي كتب عن السيلان في عصر ما بعد الحداثة، العصر الذي شهد تحولا من الأشياء المتصلبة إلى السائلة، تحولا انعكس على هوية الإنسان التي تخضع إلى تغيرات لا حد لها، وبالتالي لا نستطيع أن نقدّم نموذجا واحدا للهوية ونعممه، وأن هذه الأنواع من الهويات تشترك في منطقة واحدة وهي بناء مفهوم للإنسان، لتعريف ذاته ونفسه بشكل منفتح ومنبسط وغير عنيف”. واعتبر “أننا نستطيع أن نجمع بين كل هذه المجاميع لننتج هوية تسع الجميع”. وعن اختبار هذا المفهوم في مختبر الأنثروبولوجيا ذكر أن “هذا المفهوم غير منجز وغير منته”. وفي الختام دار نقاش بين الحضور.

14