الإنتاج الفني في مصر: صناعة تجارية أم قوة ناعمة

الحكومة تتعامل مع الدراما والسينما من منظورين تجاري ووطني.
الثلاثاء 2023/05/02
انتشار كبير لكن المستوى متذبذب

عادت الدولة المصرية تدريجيا إلى الإنتاج الدرامي إيمانا منها بقدرته وقوته الناعمة التي يمكنها تغيير الوعي، ولكن رغم الجهود ما تزال الإنتاجات التي تقدمها قاصرة عن تقديم مقاربات متوازنة للعديد من القضايا والأحداث خاصة التاريخية منها، ما سمح بتقديم أطراف أخرى قراءات مغلوطة للتاريخ المصري.

القاهرة - تطرح المنافسة القوية بين الإنتاج الفني المصري والعربي تساؤلات عديدة حول الآليات التي تجعل الدراما والسينما في مصر على رأس صدارة المشهد، كما هو الحال في عقود سابقة، بما يضمن عودة التأثير في الرأي العام العربي.

وهناك جهات حكومية على صلة بملف الإنتاج الفني في حاجة إلى أن تحسم موقفها من التعامل مع المحتوى الفني، وهل يجدي أسلوب العرض والطلب التجاري أم تريد توظيف القوى الناعمة للمساعدة في رسم صورة إيجابية للدولة في المنطقة، ما يتطلب تحسين جودة ما تقدمه شركات إنتاج تابعة للحكومة، وأخرى محسوبة على القطاع الخاص وتعمل تحت وعاء أكثر شمولية يدخل في إطار الإنتاج الوطني على مدار العام.

انتقادات أم اتهامات

محمد رفعت: الدولة المصرية عادت تدريجيا إلى الإنتاج الدرامي كقوة ناعمة
محمد رفعت: الدولة المصرية عادت تدريجيا إلى الإنتاج الدرامي كقوة ناعمة

تبرز تلك القضايا بعد سلسلة الأفلام الوثائقية التي أعلنت منصة نتفليكس عن إطلاقها، في مقدمتها عرض فيلم “الملكة كليوباترا” في العاشر من مايو الجاري، وما أثاره من جدل ثقافي وفني في مصر بعد أن أظهر الملكة كليوباترا بملامح أفريقية وبشرة سمراء اللون.

ووجدت جهات رسمية صعوبات في توضيح وجهة النظر المصرية التي عبرت عنها وزارة الثقافة بتأكيدها أن ظهور البطلة بهذه الهيئة “تزييف للتاريخ المصري”.

وأعلنت قناة “الوثائقية” التابعة لقطاع الإنتاج الوثائقي بالشركة المتحدة للخدمات الإعلامية الأحد بدء أعمال التحضير لفيلم يتناول تاريخ الملكة كليوباترا، آخر ملوك الأسرة البطلمية، وتلك الأسرة حكمت مصر عقب وفاة الإسكندر الأكبر، وتعقد المتحدة جلسات عمل مع عدد المتخصصين في التاريخ والآثار والأنثروبولوجيا لإخضاع البحوث المتعلقة بموضوع الفيلم وصورته للبحث والتدقيق.

ويبدو التحرك المصري كردة فعل على ما أثاره الفيلم العالمي، في ظل انتقادات موجهة للقائمين على الإنتاج الدرامي والسينمائي والوثائقي في مصر لندرة الأعمال التاريخية التي توثق لحقب زمنية مختلفة، وتراجع جودة الأعمال المقدمة والتي لم تستطع أن تحجز مكانا وسط أعمال اجتماعية وسياسية حظيت بقدر كبير من الاهتمام مؤخرا.

وتحرك البرلمان المصري لمواجهة أسباب تراجع القوة الناعمة المصرية، وتقدم النائب أيمن محسب، وهو نائب رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الوفد، أقدم الأحزاب المصرية وصاحب التوجه الليبرالي، بمذكرة توضيحية أكد فيها أن الدول الكبرى وجدت أن القوى الخشنة وحدها مكلفة للغاية ولا تحقق النتائج المرجوة، فبدأت في الاتجاه نحو استخدام مصادر أكثر مرونة في الضغط والتأثير في الدول.

وتعني القوة الناعمة أفكار الدولة ومبادئها وقيمها وهويتها وإنجازاتها، بدءا بالبنية التحتية ومرورا بالتاريخ والثقافة والفن، وحتى الرياضة التي تهدف إلى فرض احترام شعوب العالم وجذبهم إلى الدولة وفرض قيمها بسهولة من دون استخدام عنف أو قوة، والغرض من ذلك تحقيق مصلحة الدولة وأهدافها السياسية والاقتصادية والثقافية.

"الإمام الشافعي" بطولة خالد النبوي، من المسلسلات التي حققت انتشارا كبيرا على المستوى العربي
"الإمام الشافعي" بطولة خالد النبوي، من المسلسلات التي حققت انتشارا كبيرا على المستوى العربي

وطالب النائب البرلماني بتقديم تسهيلات لتشجيع منتجي السينما والدراما على تقديم محتوي يليق باسم الدولة، والعمل على إعادة رسم الشخصية الوطنية وتقديم مصر بشكل مختلف، بعيدا عن الصورة النمطية السائدة منذ سنوات، بما يساهم في جذب السياحة ما ينعكس على تحسين الوضع الاقتصادي.

وقال المؤلف والسيناريست سمير الجمل لـ”العرب” إن الحكومة المصرية تتعامل مع الإنتاج الدرامي والسينمائي من منظورين، أحدهما تجاري ويدعم تحقيق قدر من الجوانب الربحية مع التكلفة الباهظة التي يحتاجها تقديم المحتويات، والآخر يتعامل مع الفن كأحد أوجه مصادر القوة الناعمة المهمة، غير أن ذلك يركز على دعم الأعمال التي تريد توعية المواطنين سياسيا دون تطرق للتأثير في الرأي العام العربي.

وأوضح الجمل أن ما ينقص مصر هو وجود إستراتيجية واضحة المعالم تحمل رؤية تستهدف استعادة صدارة المشهد الإعلامي والفني العربي والتخلي عن حالة الانكفاء، فالسائد وجود ممثلين يتم تركيب أفلام ومسلسلات على مقاسهم، تدعم نجوميتهم بلا أفكار يتم التخطيط لها بمجموعة من الخبراء وتقديمها بشكل يخاطب مستويات مختلفة من الجمهور في الداخل والخارج.

وشدد على أن غياب هذه الإستراتيجية يقود إلى تكرار قصص وأعمال درامية وسينمائية بلا قدرة على التجديد أو امتلاك فلسفة واضحة تبرهن على أسباب تقديم قضايا، مثل سرقة الآثار وفساد بعض رجال الأعمال ومشكلات الطلاق على حساب قضايا أخرى تاريخية واجتماعية أيضا لكنها تغيب عن الحضور.

كما أن العامل الأبرز المتمثل في إعادة تقديم كتّاب يملكون رؤى فنية تستطيع أن تخاطب الرأي العام العربي والعالمي وإعادة تقييم النصوص المقدمة بما يخدم مسألة استعادة قوة الأعمال الدرامية في التسعينات من القرن العشرين والتي غزت العالم العربي أجمع.

حضور فني محدود

سمير الجمل: ما ينقص مصر هو إستراتيجية واضحة المعالم للإنتاج الدرامي
سمير الجمل: ما ينقص مصر هو إستراتيجية واضحة المعالم للإنتاج الدرامي

 لدى بعض النقاد قناعة بأن حضور الأعمال الدرامية على الفضائيات العربية تراجع وإن كان مازال يحافظ على قدر من الحضور، ولم يعد تسويق بعض الأعمال عربيا بالسهولة التي كان الأمر عليها قبل سنوات، وأن أعمال المنصات تشكل أداة دعم للإنتاج الفني المصري، لكن ليس بالضرورة أن يصبح معبرا عن وجهة نظر جهات حكومية في حاجة إلى أن يكون الفن داعما لصورة الدولة المصرية في المنطقة.

وتطفو مسألة حسم التوجهات المصرية من الإنتاج الفني، خاصة المسلسلات، بعد أن انتهى موسم دراما رمضان بجودة متوسطة المستوى.

وحسب رأي عديد من النقاد بأنه كان بالإمكان أفضل مما كان، برغم الانتشار الكبير الذي حققته بعض الأعمال على المستوى العربي، مثل مسلسل “جعفر العمدة” بطولة محمد رمضان، و”الإمام الشافعي” بطولة خالد النبوي، فيما يواجه حاليا موسم أفلام عيد الفطر انتقادات بسبب استمرار تراجع مستوى الأعمال المقدمة من دون تمكن الأفلام أن تلفت النظر إليها كأعمال فنية متكاملة.

وبلغ عدد المسلسلات المصرية في العام الماضي 41 عملا، معظمها طويلة (30 حلقة)، وتم عرض نحو ثلثي إنتاج الدراما (27 مسلسلا) في رمضان وجرى توزيع باقي الأعمال على مدار العام وأسهمت شركات خاصة في ما يقرب من ثلث هذا الإنتاج، وسيطرت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية على الجزء الأكبر.

ولا توجد تقديرات واضحة لتكلفة الإنتاج السينمائي والدرامي والتلفزيوني في مصر وإن كانت قد تجاوزت ثلاثة مليارات جنيه (100 مليون دولار)، وهي تكلفة ضخمة قد تكون انعكست إيجابا على مستوى الشكل، لكن ليست بالقدر ذاته على مستوى المضمون، ويتم صرفها في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية تعاني منها مصر ما جعل هناك حاجة ملحة إلى إعادة توظيف الميزانية المالية بصورة تحقق أثرا إيجابيا على النحو الأكبر لتدعم نجاح التأثير الخارجي.

غياب الدولة عن الانتاج

فيلم "كليوباترا" متهم بتزييف التاريخ
فيلم "كليوباترا" متهم بتزييف التاريخ

أكد الناقد الفني محمد رفعت أن الدولة غابت عن الإنتاج الفني لفترة، والآن بدأت تعود تدريجيا مع تأسيس الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية منذ ست سنوات، وقامت بشراء الجزء الأكبر من الفضائيات المصرية وتحتكر ما يقرب من 80 في المئة من الإنتاج المقدم، وتحديدا على مستوى الدراما التلفزيونية، وتعمل على خدمة أهداف النظام المصري وأفكاره وتوجهاته السياسية، وهو ما ظهر من خلال أعمال درامية كشفت زيف التنظيمات الإرهابية والجماعات المعادية لمصر.

وأوضح رفعت في تصريح لـ”العرب” أن دخول الشركة المتحدة أدى إلى فلترة بعض الأعمال، وقاد بالتبعية إلى زيادة جودة الأعمال المقدمة، لكن مازالت بعض الأعمال تتضمن صيغة مجاملة لبعض الممثلين والممثلات، لا يستحقون أدوار البطولة، غير أنه في المجمل ثمة أعمال تناقش قضايا اجتماعية مهمة وأولت اهتماما بمشكلات غابت طويلا عن النقاش الدرامي، مثل مشكلات المرأة المصرية، وأن ما يعيبها التوجيه الواضح في بعض الأعمال المضرة بسبب انتشارها عربيا.

ومرت هيمنة الدولة المصرية على الإنتاج الدرامي وتوجيهها كقوة ناعمة مهمة بالعديد من المحطات، ففي بداية الستينات من القرن الماضي قام نظام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بتأميم كافة الأنشطة الثقافية، وبينها الدراما والسينما والمسرح والموسيقي والفرق الفنية، مع عدم قدرة الحكومة على تحقيق أرباح من وراء هذه الهيمنة، وعدم قدرتها على تقديم أعمال ذات جودة تدعم انتشارها، ثم جرى منح فرصة للقطاع الخاص في عهد الرئيس الراحل أنور السادات.

واستمر هذا التوجه خلال فترة حكم الرئيس الراحل حسني مبارك مع احتفاظ الدولة بجهتين للإنتاج، هما شركة القاهرة للصوتيات والمرئيات التابعة لاتحاد الإذاعة والتلفزيون وقدمت أعمالا مهمة في مجالات مختلفة، وقطاع الإنتاج في التلفزيون المصري الذي قدم أعمالا درامية بارزة خلال حقبة التسعينات من القرن الماضي، أبرزها: “ليالي الحلمية” و”المال والبنون” قبل أن ينكمش الإنتاج الحكومي ثم يتراجع.

14