الإعلامي محمد توفيق لـ"العرب": الصحيفة الورقية أهم وثيقة تاريخية

القاهرة - التاريخ فكرة مراوغة، كثيرا ما نسيء التعامل معه. والروايات التي تؤرخ لحدث واحد يعتريها التناقض كثيرا، فكيف نعرف حقيقة ما وقع؟ وكيف ننظر أو نحكم على ما مضى، من أجل فهم مواضع خطواتنا ورسم معالم طريقنا؟
الإعلامي والكاتب الصحافي المصري محمد توفيق وجه جهده على مدى سنوات إلى أرشيف الصحف، وأصدر من خلالها عددا من الكتب، أبرزها كتاب “الملك والكتابة”، المكون من ثلاثة أجزاء حول “قصة الصحافة والسلطة في مصر” على مدى قرنين من الزمان (التاسع عشر والعشرين) وفيه يروي ما جرى يوما بيوم عبر ما نشرته الصحف بالفعل. وبدأ توفيق، الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية فرع الإعلام، تقديم برنامج تلفزيوني مؤخرا على قناة “الغد”، يعتمد على الوثيقة الصحفية ووثائق أخرى في رواية التاريخ تحت عنوان “حبر قديم”.
وأكد محمد توفيق لـ”العرب” أن البرنامج يعتمد على وثائق أغلبها يتراوح عمرها بين سبعين ومئة عام، وبعضها يرجع إلى نهاية القرن الـ19، قائلا “إن ما سيظهر من وثائق في الموسم الأول للبرنامج لا يزيد عن نسبة عشرة في المئة مما لديه من وثائق صحفية وأخرى متنوعة، تعرض لأول مرة على الشاشات، فهو حبر قديم، لكنه محاولة لتقديم شكل جديد من البرامج الثقافية، يكون البطل فيه هو الوثيقة وليس مقدم البرنامج”.
ولا يعتبر توفيق نفسه مذيعا أو مقدم برامج، إنما صحافي يقدم محتوى صحافيا، وإن اختلفت الوسائط، فالبرامج بالنسبة له هي صحافة تلفزيونية منذ اللحظة الأولى، وكانت تجربتاه السابقتان في الظهور كضيف في فقرة أسبوعية ثابتة بعنوان “رأي عام زمان” في برنامج قدمه الإعلامي المصري عمرو عبدالحميد على قناة “تن”، وفي برنامج “صباحك مصري” تقديم الإعلامي هشام عاصي على قناة “أم.بي.سي – مصر”.
وأشار إلى أن التجربتين كانتا بمنزلة مركز تدريب له قبل مواجهة الجمهور بمفرده، وبذل جهدا كبيرا كي تخرج فقرة “رأي عام زمان” بشكل جيد أسبوعيا، وبها شيء مختلف، على مدار عام ونصف العام، ما أكسبه الخبرات تدريجيا في مواجهة الكاميرا وتقبل ردود أفعال الناس، بما فيها التفاصيل والملاحظات.
وتلقى محمد توفيق اقتراحا من هشام سلام رئيس تحرير برنامج “رأي عام” بأن يقدم برنامجا بنفسه يكون سلام هو المنتج الفني له، ما أقلق الصحافي المتشكك دوما فيما يفعله سعيا إلى الإجادة. وقال توفيق “يوجد دائما عندي على جهاز الكمبيوتر الخاص بي ملف به أفكار كتب وبرامج وأفلام وثائقية، وأعمال يمكن أن تصلح للدراما، مع أنني لم أفكر في كتابة الدراما، وعندي أيضا فكرة البرنامج الوثيقة، لذا وافقت وتحمست وبدأت العمل”.
وصدر له في أكتوبر الماضي كتاب “الكعك والبارود”، من واقع ما نشرته الصحف خلال حرب أكتوبر 1973 يوما بيوم، حول واقع حياة الناس في مصر ومشاركتهم في الحرب، كل في موقعه، ويمثل الجزء الثاني من كتاب “شيء من الحرب” الذي صدر الجزء الأول منه عام 2022 بعنوان “السلاح السري” ويدور حول ما بعد حرب يونيو 1967، وسنوات الانتقال من الهزيمة إلى النصر.
ولم يستغرق التحضير لبرنامج “حبر قديم” وقتا طويلا، وبدأ الموسم الأول له قبل أسابيع عن القضية الفلسطينية، التي يتحدث عنها العالم الآن، لذا تساءل قبل العمل عن الجديد الذي يمكن قوله، فوجد أن “الوثيقة” يمكن أن تحكي حكاية جديدة للقضية الفلسطينية، فيقدم البرنامج شيئا مختلفا.
وهناك أنواع مختلفة من الوثائق يقدمها برنامج “حبر قديم” ترتبط بالسينما والثقافة وغيرهما، لكنها جميعا وثائق تاريخ البسطاء، وليست وثائق سياسية، كما يقول مقدم البرنامج، هي “الأوراق القديمة للناس العاديين في أي موقع، كوثيقة ملف خدمة حارس مدرسة، ورحلته الوظيفية وراتبه خلال ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، وترجع أهمية مثل هذه الوثائق إلى أنها تروي تاريخ الناس الذين لا يتم ذكرهم غالبا في كتب التاريخ”.
وبلغ إجمالي عدد مشاهدات الحلقات الثلاث الأولى على منصات قناة “الغد” نحو أربعة ملايين مشاهدة. واختار الكاتب المصري الراحل أحمد رجب عام 2014 الصحافي محمد توفيق الذي تضم قائمة كتبه واحدا بعنوان “أحمد رجب ضحكة مصر”، كي يتسلم بالنيابة عنه جائزة أفضل كاتب في الوطن العربي.
وأكد توفيق أن الكتب حبه الأول، وسيظل مدينا لها طوال العمر، وأنه لا يتعامل معها باعتبارها فترة سيتم تجاوزها، ويعمل حاليا على مشروعات جديدة فيها، فالبرنامج لا يبعده عن الكتب، وهو استكمال لمشروعه، في إطار محاولة توصيل الأفكار بأكثر من وسيط، وضمان تقديمها لعدد أكبر من الناس عبر برنامج تلفزيوني.
◙ توفيق يحرص على عدم كتابة رأي واضح في كتبه، لكنه ينقل الأحداث كما تناولتها الصحف وقت وقوعها من زوايا مختلفة
وتحدث لـ”العرب” عن أبرز ما تعلمه من التاريخ بعد رحلته العميقة بين الوثائق الصحفية والمراجع التاريخية والمذكرات السياسية، قائلا “هناك جملة أكررها دوما، وهي أن للحقيقة وجوها كثيرة جدا، وهذا ما تعلمته من التاريخ، لذا أستغرب للغاية أولئك الذين يتحدثون بثقة شديدة، مطمئنين إلى أنهم يعرفون الحقيقة، ولا أعرف مصدر هذه الثقة، فكلما قرأتُ في التاريخ أكثر تشككت أكثر، وهناك دوما للواقعة الواحدة روايات متباينة”.
يحرص توفيق على عدم كتابة رأي واضح في كتبه، لكنه ينقل الأحداث كما تناولتها الصحف وقت وقوعها من زوايا مختلفة، ويعتبر أن الصحيفة الورقية ربما لا تكون هي الوثيقة الأصدق أو الأدق، لكنها الأهم، لأنها الوثيقة التي يستطيع كل الناس أن يقتنوها بسهولة، ويمكن لهم الاحتفاظ بها وتوريثها للأجيال التالية، وأغلب الوثائق الرسمية بمصر لا يجوز الاطلاع عليها، وإتاحتها أمر صعب، ويحتاج إلى موافقات بيروقراطية مضحكة.
والميزة الكبرى أيضا للصحيفة الورقية كوثيقة، أنه يمكن من خلالها معرفة الآراء الحقيقية للناس وقت وقوع الحدث، وليس بعده بعشرين أو خمسين عاما، وهذا أكثر ما يحاول الكاتب المصري أن يقوم به في مشروعه، بأن ينقل ما حدث بالفعل وقت وقوعه وآراء الناس إزاءه، وليس نقل الآراء التي تم التوصل إليها بعد تطورات كثيرة للغاية.
ويعتبر محمد توفيق أن مصر بلد أبرز ما يمتلكه هو الأرشيف، بداية من الأهرامات الثلاثة التي يمكن تسميتها بتعبير بسيط “أرشيف الفراعنة”، وهي واجهة للزمن، ولذلك فأرشيف مصر من معالم القوة الناعمة لها. وعبر عن فكرته هذه خلال لقاء قديم مع الكاتب المصري الراحل جمال الغيطاني، فردّ بأن الولايات المتحدة عندما غزت العراق، فهي في الحقيقة قامت بغزو أرشيف البلد، لأنها كانت تغزو بلدا حضاريا.
واختتم الصحافي المصري ومقدم برنامج “حبر قديم” حديثه بالقول إن الاستثمار الحقيقي “ينبغي أن يكون في أرشيفنا، وكلما استثمرنا في تاريخنا كلما جنينا الثمار فيما بعد، فالتاريخ ليس ماضيا أبدا إنما هو علم المستقبل، وفقا لمقولة الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، وهو الذي يتحكم في الحاضر والمستقبل بشرط أن نفهمه جيدا".