الإشادة بالحريات الدينية لا تخفف الضغوط الحقوقية عن مصر

القاهرة - أظهر احتفاء الحكومة المصرية بالإشادة الدولية بتحركاتها في ملف الحريات الدينية أخيرا بأنها ماضية في طريقها للتركيز على الملفات الحقوقية البعيدة عن كل ما له صلة بالإصلاحات السياسية أو يرتبط بفتح المجال العام ورفع سقف الحريات والكف عن مناكفة القوى الحزبية التي تغرد خارج السرب.
واهتمت الحكومة وإعلامها بشكل كبير بتصريحات مفوض لجنة الولايات المتحدة للحرية الدينية الدولية جوني مور قبل أيام وقال فيها إن “القيادة المصرية تستحق الثناء لما تحملته من مسؤولية لتحقيق التعايش السلمي بين الأديان، وإنها مثال يُحتذى به بعدما عملت على حماية ذلك التعايش وتعزيزه”.
وبدت دوائر حكومية مرتاحة للانطباع الإيجابي الذي تحقق في شأن ملف الأقباط بعد أن كان لغما في طريق العلاقات المصرية - الغربية لفترات طويلة، حيث اعتادت بعض الدول استخدام هذه الورقة لفرض ما يشبه الوصاية على مشكلات الأقباط المتعلقة بحرية العبادة وبناء الكنائس وترميمها وممارسة ضغوط على القاهرة.
وتتذكر القاهرة الضغوط التي تعرضت لها البلاد من وراء ورقة الأقباط لدرجة أن الكونغرس الأميركي ناقش مشروع قانون خاص بمسيحيي مصر تضمن مساءلة النظام عن أوضاع الكنائس والترويج لتخاذل الحكومة في ترميمها وتقنين أوضاعها، واقتربت الدولة من إدراج اسمها بالقائمة السوداء لأكثر الدول انتهاكا للحريات الدينية.
من المستبعد أن تمضي الحكومة نحو تكريس الحريات السياسية بنفس الوتيرة التي تعاملت بها في ملف الحريات الدينية
وأولت الحكومة اهتماما غير محدود بملف الكنائس، حتى بلغ إجمالي الكنائس التي تم تقنين أوضاعها 2162 كنيسة ومبنى تابعا لها، عقب سلسلة هجمات شنها متطرفون على دور العبادة المسيحية بدعوى أنها غير مرخصة، ما تسبب في تذمر واسع لدى الأقباط، تعاملت معه الحكومة بحنكة سياسية عندما قررت توسيع دائرة التقنين لتجنب خسارة الدعم السياسي الذي يمثله المسيحيون للنظام المصري.
وقالت مديرة المركز المصري لدراسات الديمقراطية (حقوقي) داليا زيادة إن الحكومة استطاعت أن تحرز بعض النجاحات على مستوى إنهاء المشكلات التاريخية المتعلقة بأوضاع الأقباط على مستوى بناء الكنائس، بما انعكس على التقارير السنوية الصادرة عن لجنة الحريات الدينية الدولية خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أسهم في تحييد الكثير من الانتقادات التي كانت تطالها في هذا المجال.
وأضافت لـ”العرب” أن التطور حصل على مستوى توجهات الدولة وإجراءاتها وقوانينها دون أن ينعكس على المستوى الشعبي ويكون هناك انفاذ تام للقانون كبديل عن الجلسات العرفية التي مازالت قائمة في مناطق شهدت نوعا من العنف الطائفي، ما يجعل هذا الملف قابلا للانتقادات مع أيّ مشكلة أو أزمة طائفية تحدث.
وأوضحت أن عدم غلق الملف بشكل كامل ووجود قصور آخر على مستوى الحقوق المدنية والسياسية يضعان البلاد تحت مقصلة الانتقادات الحقوقية الخارجية، فثمة قناعة دولية بأن البيئة المواتية لنجاح الإصلاحات الحكومية في مجال الحريات العامة في حاجة إلى تهيئة مناسبة عبر إجراءات وقرارات تثبت جدية الحكومة لتحسين الأوضاع الحقوقية.
ومن المستبعد أن تمضي الحكومة في طريق تكريس الحريات السياسية وافساح المجال أمام المنظمات الحقوقية للعمل بأريحية بنفس الوتيرة التي تعاملت بها في ملف الحريات الدينية لأسباب ترتبط بقناعات راسخة في أذهان مسؤوليها بأن الحريات السياسية قد تؤدي إلى تهديد الاستقرار الأمني في البلاد.
وألمح الرئيس عبدالفتاح السيسي كثيرا إلى مخاطر ما يسمى بـ”التنظير السياسي” وفتح المجال للمعارضين ليقولوا ما يشاؤون بلا ضوابط، ويُذكّر المصريين بما جرى في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك عندما سمح بممارسة قدر من الحرية غير المنضبطة، حتى انفلت الموقف وتحولت الحرية مع التظاهرات إلى فوضى أدت إلى سقوط النظام، متعهدا بعدم تكرار ما جرى في السابق للحفاظ على الدولة.
وتنسجم التلميحات المتكررة بشأن عدم فتح المجال العام على مصراعيه مع المزاج الشعبي لشريحة من المواطنين باتت غير مكترثة بملف الحريات السياسية، ولا يعنيها سوى البحث عن طرق لمواجهة الغلاء وحل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وأصبحت هناك ندرة في الاهتمام بالأوضاع السياسية والتعاطف مع المجتمع المدني.
ويعتقد متابعون أن قلة اكتراث الحكومة بالتعامل بجدية مع ملف الحقوق والحريات أو بنفس الحماس المرتبط بالحريات الدينية يبقيها تحت ضغط غربي، لأن الكثير من الدول الأوروبية تتعامل مع ملف التعايش بين الأديان باعتباره واجبا رسميا وليس إنجازا أو خطوة كافية لإظهار مرونة الدولة في التعاطي بجدية مع الحريات عموما.
وأزمة الحكومة المصرية أنها تتعامل مع ملف الحريات بالقطعة ولا تضعه كاملا في حزمة واحدة، ولا تُدرك أن الحريات الدينية جزء من كلّ ويجب التعاطي معه بنفس القدر من الاهتمام والرعاية، وقد تبقي الانتقائية في الملف الحقوقي مصر تحت الضغط مهما حاولت التأكيد على أنها حققت المطلوب في ملف الأقباط.
وتحولت ثقافة الانتقائية في ملف الحريات إلى استراتيجية عند الحكومة، وهو ما توظفه بعض القوى الغربية لتطويع سياساتها نحو تحقيق مصالحها مع مصر.
ولن تقطع الحكومة شوطا جادا في ملف الحريات إلا إذا توقفت عن التعامل معه من وجهة نظرها وتقديراتها فقط وتتعاطى معه بما يتجاوز فكرة الحق في العبادة.
وأكدت داليا زيادة أن قلة الخبرات المصرية في مجال الإصلاح السياسي والحقوقي والتعقيدات الحاصلة على مستوى الأوضاع الأمنية الصعبة في محيطها العربي واعتماد الحكومة بشكل أكبر على تحسين أوضاع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، من العوامل التي تؤدي إلى استمرار الانتقادات، وتبدو الحكومة كمن يقف على قدم واحدة بينما تواجه مشكلات عديدة في القدم الأخرى.
وأطلق الرئيس السيسي على العام الجاري “عام المجتمع المدني” في إشارة إلى الاهتمام بكل شؤون هذا القطاع، لكن المشكلة تكمن في تعامل الحكومة مع قضايا المجتمع المدني كمشروع تتحرك فيه لتحقيق إنجازات اجتماعية واقتصادية، الأمر الذي يتعارض مع ما تطرحه حكومات غربية ومنظمات أجنبية.
وتسعى الحكومة المصرية لتوظيف الصورة الإيجابية المأخوذة عنها في ملف الحريات الدينية لتعظيم مكاسبها السياسية، وبإمكانها الترويج لذلك بأن الدولة آمنة وتطبق المواطنة والمساواة فيها، لكن قد تضع نفسها تحت ضغط أكبر، فإذا كانت قد نجحت في تكريس الحريات الدينية فهي قادرة على توسيع مساحة الحريات العامة.
واعتادت القاهرة التملص من إقرار الحريات المطلقة وتبرر ذلك بخصوصية الدولة المصرية التي تختلف عن مثيلاتها في الغرب، وتسوّق لمجموعة من المبررات المرتبطة بالتحديات الأمنية والإرهاب والتطرف لتخفيف حدة الضغوط الخارجية.