الإخوان القطبيون مصدر الفكر التكفيري

أحداث ووقائع كثيرة راهنة، تجعل العودة إلى تراث سيد قطب أكثر من ضرورية، ذلك أن المدوّنة الفكرية التي رسمها قطب تمثّل اليوم نقطة الالتقاء بين أغلب التيارات الإرهابية، وهي المعين الفكري الذي تنهلُ منه تلك التيارات في التأصيل الفكري لمنجزها الإرهابي.
ربما تمر عقود من الزمن، قبل أن تظهر وثائق، تساعد على فك شيفرة “الإخوان” وأهدافهم، التي ازدادت استعصاءً على الفهم، منذ أن تحوّلت إلى منهجية سيد قطب، إذ توالى على موقع المرشد العام، رجال ثأريون. فقد كان أولئك المرشدون، في شبابهم، من بين المجموعة الصغيرة، التي اجتذبها قطب، من بين الذين خرجوا من السجون في أوائل الستينات، وكانوا أكثر تأثراً بما حدث لهم في المعتقلات.
وبالطبع تسبب سيد قطب في عودتهم إلى السجون عندما ابتنى بهم تنظيماً بتطرف تكفيري أشد، بدل أن يراجع التجربة ويحدد أهدافاً واقعية، وهو الذي عُرف بتقلباته على مر ثلاثين سنة. ولم يلتزم حتى بأساليب حسن البنا، الذي أظهر حياله وداً مفقوداً. فلم يأخذ بتدابير “الإيهام” و”الخلايا النائمة” كأن تكمن العناصر في مواضع العمل المدني، ويحرص كل منها، على إعطاء انطباعات مطمئنة عن وجهته، بينما هو في مقاصده يتجه إلى وجهة أخرى. فهذا هو أسلوب الجماعة في الأساس.
فقد حدث بعد اغتيال مؤسس الجماعة حسن البنا، أن الذي تسلم موقع المرشد العام بعد ذلك بعامين (1951) هو رجل القضاء حسن الهضيبي، الذي ظل ظاهرياً في منأى عن “الإخوان” كواحد من أساطين القانون المدني. وفي اللحظة المناسبة، أتضح أنه بايع البنا عام 1943. وهذا أمر شرحه اسعد سيد أحمد، وهو أحد أصدقاء الهضيبي، في كتاب صدر عام 1977 بعنوان “الإسلام والداعية: الإمام المرشد حسن البنا” وقال فيه “كان هذا الخفاء أمراً متفقاً عليه بين الإمام الشهيد حسن البنا والهضيبي الصديق. فمن أول لحظة انعقدت فيها البيعة، كان مرد هذا الاتفاق، إلى طبيعة التواضع وحب العمل في خفاء من جانب الهضيبي، وإلى الرغبة في أن يكون للدعوة، جنود وأنصار غير ظاهرين من جانب حسن البنا، وإلى ما يحظره القانون المصري على رجال القضاء من الانتساب إلى الهيئات والجماعات التي تشتغل بالسياسة”!
الأمر الأخطر في فكر القطبيين، أن ما كتبه قطب يؤسس للاحتراب الأهلي والنزاعات الاجتماعية المفتوحة. فليس في وسع أحد من الجماعة أن يفسر كيف يمكن تنفيذ ما دعا إليه سيد قطب، دون أن يقتتل المجتمع. لقد شرح مفهوم الجاهلية، بطريقة غير مسبوقة في تاريخ الفقه الإسلامي، وهو الذي لم يهتد إلى الدين نفسه، إلا قبل بضع سنوات. فالرجل يكتب ويقول لقرائه ومواليه: إن المسلمين أنفسهم أو من يتصورون أنهم مسلمون، هم في جاهلية أظلم من الجاهلية التي عاصرها الإسلام في بداياته. بل إن المسلمين لا وجود لهم، وإن عقائد الناس وتصوراتهم وتقاليدهم وفنونهم وآدابهم وشرائعهم وقوانينهم كلها جاهلية.. بل إن الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية ومراجع إسلامية وتفكيراً إسلامياً، هو في حقيقته من صنع الجاهلية (وهذا منصوص عليه في كتابه “معالم في الطريق”).
ليس في وسع أحد من جماعة الإخوان أن يفسر كيف يمكن تنفيذ ما دعا إليه سيد قطب، دون أن يقتتل المجتمع
من هنا انطلق الفكر التكفيري الذي عارضه الكثيرون من قدامى “الإخوان” الذين انضووا في هذه الجماعة باعتبارها مشروعاً للدعوة الوسطية. وهذا الذي جعل الشيخ محمد الغزالي يحذّر من “ماسونية” سيد قطب، مستنداً إلى حقيقة أن الرجل عمل محرراً لمجلة “التاج المصري” الصادرة عن المحفل الماسوني المصري وكان يوقّع افتتاحيتها باسم “سيد”. فالغزالي لم يخطئ، إذ لا تزال هناك على مستوى البحوث، مرحلة غامضة من حياة سيد قطب، يسمونها “المرحلة الماسونية”.
فالحركة الماسونية، تعتمد السرية و”الإيهام” وتقدم نفسها بلغة فضفاضة، وتتبع أسلوب انتقاء أعضائها في تصنيف للبشر، وهذا أمر مخالف لقواعد الفهم الاجتماعي وللتقوى والإخاء في العقيدة. وسيد قطب لم يُظهر أي قناعة بفكرة الدولة. فالدولة عنده هي “الحكم” أي النظام السياسي وحده، وليس معه الأرض والشعب أو المجتمع والمصير الواحد في الوطن الواحد.
كانت مصر في عام 1964 قد أصدرت قانون الجمعيات الأهلية الذي يتعيّن بموجبه على كل جمعية في إطار النشاط المجتمعي، تقديم كشف بأعضائها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية وكذلك موازناتها وطبيعة عملها، فرفضت المحافل الماسونية المصرية هذا القانون الذي يخرق قاعدة السرية. لذا أصدرت الوزيرة حكمت أبوزيد في تلك السنة، قراراً بحظر المحافل الماسونية.
كان قطب، قد جعل الجماعة أشد خطراً مما كانت في المراحل الأولى من تأسيسها. صحيح أن التسليح والتدريب للانقضاض على الدولة قد بدأ في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي، لكن منهجية تكفير المجتمع وادعاء أن الجماعة معنية برد الناس إلى الدين، تشكّل خطراً أكبر، إذ سيكون الصراع في دائرة أوسع حين تزعم جماعة لنفسها الوصاية على الإيمان، فترهب الناس بذريعة “الجهاد” وبجدة إعادتهم إلى دينهم الذي ضلوا عنه.
عندما وقعت حادثة قتل رئيس الوزراء المصري أحمد ماهر في فبراير 1945 على يد أحد منتسبي “الإخوان” كانت الجماعة قد زرعته في “الحزب الوطني”، كان التبرير الأول لعملية القتل، أن الرجل أعلن الحرب على دول المحور في الحرب العالمية الثانية، ولم يكن ذلك صحيحاً لأن الحرب كانت تضع أوزارها، ثم قيل إن حسن البنا اتخذ قرار القتل، ظناً منه أن أحمد ماهر كان سبب فشله في الانتخابات النيابية عن منطقة الإسماعيلية، وكان ذلك التعليل ضعيفاً، لأن البنا ليس من أبناء الإسماعيلية لكي يترشح عنها، وهو مجرد معلم مدرسة عمل في الإسماعيلية لفترة زمنية. ومع تطور البحث التاريخي بدأ الحديث عن أن ماهر قُتل لرفضه تسليم الحكومة البريطانية، اثنين من الإرهابيين اليهود، اغتالا اللورد البريطاني موين في القاهرة، في نوفمبر 1944 وكان الرجل يعارض قيام دولة يهودية في فلسطين، ويقترح لليهود دولة في أوروبا الشرقية.وقد ذهبت البحوث إلى أن “الجماعة” كانت “مخترقة” وأن مصدر القرار صهيوني. وهناك وثيقة إسرائيلية نشرت مؤخراً، تتعلق بعمل إرهابي إسرائيلي لاحق في القاهرة، وهو الشهير الذي سمته المراجع التاريخية “فضيحة لافون”. فقد اعتقل منفذو التفجيرات في المراكز الأميركية والبريطانية في مصر، في صيف 1945 بهدف تسميم علاقة مصر بالغرب.
والوثيقة الإسرائيلية تقول، إن المتهمين اليهود تلقوا معاملة حسنة جداً من معتقلي “الإخوان” في السجون، وأن إسرائيل كانت على علم، بأن تعليمات الجماعة لسجنائها قضت بمعاملة “أخوية” لليهود. وتؤكد الوثيقة على أن سجناء من الجماعة ساعدوا الإسرائيليين على إيصال رسالة منهم إلى الوحدة 131 استخبارات في إسرائيل، وأن سيد قطب، تحادث في السجن مع روبرت داسا أحد المتهمين اليهود، وأعرب له عن إعجابه بـ”نضال اليهود ضد البريطانيين، وبفكرة القرى الزراعية الإسرائيلية”!
إن شككنا بما جاء في الوثيقة الإسرائيلية، يظل الغموض في الأهداف النهائية الحقيقية للجماعة، أمراً قائماً، طالما ظلت جارية ممارسات التكفير واستعداء الناس على الناس، والحث على العنف، وتسميم وعي الناشئة.