الإحياء الثقافي يحمي مدن العالم الكبرى من الاضمحلال

السياسات الثقافية تعيد للمدن بريقها وحضورها العالمي.
الاثنين 2021/11/01
الثقافة تحيي سيرة المدن

تتجه الحكومات الغربية وحتى العربية نحو تعزيز الاستثمار في الثقافة ودعم السياسات الثقافية بهدف المحافظة على وجودها ضمن دائرة الضوء العالمية في عالم أصبح سريع التغير ومتعدد الاهتمامات بفعل الثورة التكنولوجية، مراهنة على أنّ الثقافة قادرة على جعل المدن أكثر ثراء وأمانا واستدامة.

الثقافة هي قلب المدينة الذي يروي قصتها. وتُقدّر المدن الحديثة أهمية أن تكون محاور ثقافية، فتستثمر مبالغ طائلة وتنفذ أفكارا مبتكرة على أمل أن تتوج أحدث “عاصمة للثقافة”. فعلى سبيل المثال أسهم حصول القوة الصناعية السابقة غلاسكو على جائزة مدينة الثقافة الأوروبية عام 1990 على رفع مكانة المدينة من رمز للعنف والفقر إلى مركز حيوي للفنون. وتبعتها مدن أخرى في أوروبا، معتمدة تسمية “عاصمة الثقافة” للمساعدة على تغيير واقعها في فترة ما بعد الصناعة.

وأدرك قادة مدن الشرق الأوسط وآسيا الحديثة هذا وأن جذب الزوار إلى تجربة ثقافية بدلا من مجرد الترويج لبلادهم على أنها وجهة لقضاء عطلة هو مفتاح نجاحهم. كما أدركوا -على عكس بعض المدن في أوروبا التي تركت فوائد التواجد في دائرة الضوء الثقافية العالمية تتلاشى- أنّ عليهم بذل جهود للحفاظ على هذا الزخم.

إيرينا بوكوفا: الثقافة أصل استراتيجي لإنشاء مدن أكثر شمولا وإبداعا واستدامة

مرت كل من سنغافورة وهونغ كونغ بدورات من الاستثمار الثقافي لتظل جذابة للزوار. وربما تكون استضافة دبي لمعرض إكسبو 2020 أوضح مثال على مدينة تتفهم الحاجة إلى التجديد؛ فبعد ضربات الأزمة المالية العالمية ووباء كوفيد - 19 لا يمكن تصور توقيت للمعرض أفضل من هذا التوقيت لدفع المدينة إلى دخول مرحلة جديدة.

وتساعدنا مبادرات “رأس المال الثقافي” في اكتشاف مدن قد لا نعرف عنها شيئا، وبالتالي تطوير تقدير جديد لتراثها الثقافي. وتتوج عاصمة الثقافة العربية سنويا منذ 1996، مرورا بإربد في الأردن المدينة المختارة لسنة 2021، ومدينة الكويت في 2022، وليس انتهاء بطرابلس اللبنانية في 2023. وأطلقت جامعة الدول العربية المبادرة في إطار برنامج اليونسكو للعواصم الثقافية من أجل الترويج للثقافة العربية وتشجيع التعاون وبناء التفاهم بين الثقافات.

لكن ما هي معايير التأهيل لتصبح العاصمة ثقافية؟ وما هي الثقافة بالضبط؟ هل هي طقوس؟ أزياء خاصة؟ هل هي الفنون والحرف اليدوية؟ وهل تُحدد بأهلها وتاريخها ومبانيها وهندستها المعمارية؟

تُعرِّف اليونسكو الثقافة بأنها “مجمل السمات المميزة، الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي يتصف بها مجتمع أو مجموعة اجتماعية، وعلى أنها تشمل -إلى جانب الفنون والآداب- طرائق الحياة، وأساليب العيش معا، ونظم القيم، والتقاليد، والمعتقدات”.

مجموعة السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية المميزة للمجتمع أو مجموعة اجتماعية لا تشمل الفن والأدب فحسب بل تضم أيضا أنماط الحياة وطرق العيش معا وأنظمة القيم والتقاليد والمعتقدات. ربما يمكننا إضافة “الأبدية” إلى هذا التعريف؛ فقد تسقط المدن ولكن مساهماتها الثقافية يمكن أن تدوم أكثر من الشعوب والقوى التي بنتها، حيث كانت حدائق بابل المعلقة واحدة من عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، وبالرغم من عدم وجود دليل مرئي على وجودها إلا أن أهميتها الثقافية لا تزال قائمة. وتقع أطلال بابل نفسها داخل حدود العراق وهي أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو، وكانت عاصمة الإمبراطورية البابلية الجديدة بين 626 و539 قبل الميلاد، ومثلت تعبيرا عن إبداع الإمبراطورية في أوجها.

دعاية سياسة للسياحة الثقافية
دعاية سياسة للسياحة الثقافية

وبعد 2600 عام ظهرت أهمية الاستثمار في المبادرات الثقافية التي تجمع الناس في دبي. وعلى مدار 170 عاما قدم إكسبو الدولي منصة لعرض أعظم الابتكارات من جميع أنحاء العالم. وأقيم أول معرض عالمي في قصر الكريستال في منطقة هايد بارك في لندن سنة 1851، حيث احتفل بالعجائب الصناعية في عالم سريع التغير. وأقام معرض دبي إكسبو -وهو أول معرض من نوعه في الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا- مؤخرا حفل الافتتاح الكبير تحت أكبر قبة غير مدعمة في العالم في ساحة الوصل، والتصميم مستوحى من شكل خاتم ذهبي عمره 4 آلاف سنة من العصر الحديدي عُثر عليه في موقع ساروق الحديد الأثري. ويعدّ شعار معرض دبي مثالا رائعا لإحياء الجذور الثقافية القديمة وإعادة تاريخها بشكل خلاق للجمهور الحالي.

وتعمل وجهات مثل دبي وسنغافورة وهونغ كونغ على تنشيط هوياتها الثقافية باستمرار في محاولة للبقاء بارزة في عالم سريع التغير وموجود إلى حد كبير عبر شبكة الإنترنت التي تتراجع فيها مدة حياة المشاريع الكبرى. لكن هل يستحق كل هذا المجهودات المبذولة؟ هل يعدّ بناء (وأحيانا إعادة بناء) الثقافة في بيئاتنا الحضرية أمرا مهما؟ وفقا للدراسات الحديثة الإجابة هي “نعم”، فهذا مرتبط ارتباطا وثيقا بالازدهار.

وجدت دراسة لليونسكو في 2016 أن الثقافة قادرة على جعل المدن أكثر ثراء وأمانا واستدامة. وكتبت إيرينا بوكوفا، المديرة العامة السابقة لليونسكو، في مقدمة التقرير العالمي -الذي جاء بعنوان “الثقافة: المستقبل الحضري”- “إن الثقافة تكمن في قلب التجديد والابتكار الحضريين”. وأضافت أن التقرير قدم أدلة ملموسة تظهر قوة الثقافة كأصل استراتيجي لإنشاء مدن أكثر شمولا وإبداعا واستدامة.

قادة مدن الشرق الأوسط وآسيا الحديثة أدركوا أن جذب الزوار إلى تجربة ثقافية بدلا من مجرد الترويج لبلادهم على أنها وجهة لقضاء عطلة هو مفتاح نجاحهم

وفي الفترة الأخيرة أصدر مركز الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود للثقافة العالمية (إثراء) سلسلة من ثلاثة تقارير تركز على الثقافة، وتهدف إلى تعزيز فهم أكبر لكيفية تطور الصناعة الثقافية والإبداعية في المملكة العربية السعودية والمنطقة. ومن أبرز الأحداث أن المشاركة الثقافية آخذة في الازدياد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع وجود آفاق نمو أعلى في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر. وسيظهر الإصدار أن دول الخليج قد تبنت نهجا من أعلى إلى أسفل في التنمية الثقافية. فهي تستثمر الأموال العامة بكثافة لإنشاء المؤسسات والأطر والبنى التحتية والمساحات لتمكين الصناعة الإبداعية ليس فقط من الوجود بل من الازدهار. وفي المقابل، اتبعت دول المشرق العربي وشمال أفريقيا العربية نهجا تصاعديا مدفوعا بمبادرات خاصة وشعبية ومشهد ثقافي نابض بالحياة. ويبدو أن كلا النهجين ناجحان مع 90 في المئة من المشاركين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذين قالوا إن المشاركة الثقافية مهمة بالنسبة إليهم.

وتؤكد هذه الرغبة المتزايدة في المشاركة في التجارب الثقافية صحة نهج الاستثمارات الثقافية. وكان البلاط الملكي في الماضي يستعرض ثراءه وأهميته الثقافية من خلال قطعه الفنية وشخصياته الثقافية البارزة في ذلك الوقت. أما اليوم فتوجد محكمة الرأي العام على نطاق عالمي أوسع. وهناك ارتباط جوهري بين الثقافة والازدهار الاقتصادي، حيث يوجد مطلب مشترك للحفاظ على المدينة الثقافية ذات الصلة وجذب انتباه الجماهير المتنقلة.

* سنديكيشن بيورو

7