التدمير أم التعمير: الموروث الثقافي تحت رحمة طالبان

أفغانستان تتمتع بتراث وتاريخ مفعم بالثراء وبمجموعة متنوعة من الهويات التي طغت عليها الحروب والصراعات وباتت مهددة بالإندثار تحت حكم طالبان.
الاثنين 2021/08/30
تمثال بوذا مهدد من جديد

كل الرسائل المتواصلة من قادة حركة طالبان بشأن تغيرها لا تبعث بإشارة اطمئنان واضحة بشأن سلوك الحركة المتطرفة، خصوصا ما يتعلق بالإرث الثقافي المعماري والتاريخي. فحادثة تدمير تمثال بوذا من قبل طالبان مازالت ماثلة في الأذهان، وقبل أيام دمرت تمثالا لشخصية أفغانية شيعية تحت مسوغات مختلفة، بينما أنظار العالم مازالت شاخصة إلى مصير تماثيل أخرى في مدن أفغانية مختلفة.

“ففي التسامح، كن مثل المحيط المترامي الأطراف…”، قد لا يعرف الكثيرون أن هذه الكلمات التي هي عبارة عن دعوة إلى الترحيب بالتعددية هي في الواقع كلمات أحد الرموز التاريخية في أفغانستان، وهو شاعر القرن

الثالث عشر والعالم المسلم جلال الدين الرومي. وقد ادعت تركيا وإيران وحتى دول مختلفة من العالم العربي نسبة الرومي إليها، ولكن يُعتقد أنه ولد عام 1207 في مدينة بلخ، الواقعة شمال ما يعرف اليوم بأفغانستان.

وسيكون من المثير للاهتمام رؤية كيف ستتصرف طالبان مع ميراث الرومي والرموز الثقافية الأخرى التي ازدهرت في الماضي على الأرض التي تسمى اليوم أفغانستان. وإذا لم يُثر ذلك الموروث الأفغاني إعجاب حركة طالبان فما الذي يمكن عمله لحمايته من بطش الحركة.

تمثال بوذا تحفة تاريخية أقدمت طالبان على  تفجيره
تمثال بوذا تحفة تاريخية أقدمت طالبان على  تفجيره

ولا توجد إشارات مبشرة في الوقت الراهن، فبعد فترة وجيزة من الانقضاض على كابول أعلنت طالبان أنها قد تغيرت وتريد السلام، كما أعلن قادة الحركة “العفو” عن كل من عمل ضدهم في السابق، وقالوا إنهم مستعدون للتعاون، حتى مع “أخواتنا”، ثم بعد ذلك بقليل قاموا بنسف أحد التماثيل.

فهل دمروا ذلك التمثال لأنهم اعتقدوا أنه يُروج لعبادة الأوثان، أم لأنه كان يصور أحد أعدائهم، أم لأن صاحب ذلك التمثال كان رجلاً شيعياً، أم لكل ما سبق؟ يستحيل الجزم، لكن من المحتمل أن تمثال عبدالعلي مزاري -بطل أقلية الهزارة العرقية الأفغانية الذي أعدمته حركة طالبان عام 1995- قد لبى كل تلك الخيارات.

وبالطبع، لم تكن لتمثال مزاري قيمة ثقافية أو فنية عظيمة، بل إن تدميره أكسبه شهرة أكثر مما يستحق. لكن الأكثر إثارة للاهتمام أنه كان في مقاطعة باميان التي نسفت حركة طالبان فيها تمثالين ضخمين لبوذا يرجعان إلى 1500 عام، وكانا منحوتين في سفح الجبل، وكان ذلك في عام 2001، ولا يزال تفجير تلك التماثيل بالديناميت هو أكبر عمل تدمير متعمد للثقافة في التاريخ الحديث.

حال التماثيل

إذاً، هل يعد تدمير تمثال مزاري إشارة إلى ما سيكون عليه حال البلد في المستقبل القريب؟ وبعد انتهاء القتال ضد “الآخرين” -أي القوات الأجنبية التي احتلت أفغانستان- هل سيتحول القتال الآن إلى الجبهة الداخلية ضد “الآخرين”، أي ضد المشهد التاريخي والديني والاجتماعي الأفغاني؟

وهناك الكثير والكثير ممن يمكن لحركة طالبان اعتبارهم “الآخرين” في البلاد.

وتتمتع أفغانستان بتراث وتاريخ مفعم بالثراء، وبمجموعة متنوعة من الهويات التي طغت عليها الحروب والصراعات. ومن أفغانستان انتشرت البوذية إلى الصين، كما ازدهرت فيها الديانة الزرادشتية والمسيحية واليهودية والهندوسية قبل وبعد وصول الإسلام إليها في القرن السابع. وباعتبارها محطة رئيسية على طرق التجارة التي تعود إلى آلاف السنين والتي تربط الهند بإيران والصين، فإن أفغانستان مليئة بآثار المدن القديمة والأديرة واستراحات القوافل التي استضافت مسافرين مشهورين مثل الرحالة المغربي ابن بطوطة في القرن الرابع عشر، وماركو بولو من مدينة البندقية في القرن الثالث عشر.

ما الذي يمكن عمله لحماية الموروث الأفغاني من بطش الحركة

وتنتشر القطع الأثرية القديمة في مختلف أنحاء البلد، وتوجد حالياً حوالي ثمانين ألف قطعة آثار في المتحف الوطني، ودمرت طالبان عددا من تلك القطع الأثرية في المتحف، في المرة الأولى التي اعتلت فيها كرسي السلطة. لكن في فبراير من هذا العام منع قادتها بيع القطع الأثرية، وطلبوا من أتباعهم “حماية الآثار ومراقبتها والحفاظ عليها بكل ما أوتوا من قوة”، كما أوقفوا عمليات الحفر غير القانونية، وبدأوا في توفير الحماية لـ”جميع المواقع التاريخية”.

وسنرى ما إذا كانت تلك التعليمات الحازمة ستؤتي أكلها، وهل سيحمون القلب التاريخي لمدينة هرات؟ وهو موجود حاليا على قائمة مؤقتة لمواقع اليونسكو للتراث، وقد استولى الإسكندر الأكبر على مدينة هرات عام 330 قبل الميلاد خلال حملته ضد الأخمينيين، وتلك المدينة أصبحت في ما بعد موقعًا رئيسيًا للإمبراطورية الهلنستية السلوقية.

ثم هناك مدينة بلخ التي أنجبت الرومي وابن سينا، المعروف في الغرب باسم أفنيسينا، والشاعر أبا قاسم الفردوسي، وكلاهما يرجع إلى نهاية الألفية الأولى. وقد يكون اسم مدينة بلخ معروفا باسم مدينة باكتريا خاصة لأولئك الذين يترددون على المتاحف الغربية، وذلك الاسم يرمز إلى الحضارة القديمة التي يعود تاريخها إلى أوائل الألفية الثالثة قبل الميلاد، من السلوقيين إلى الساسانيين إلى الكثير غيرهم. وتجذّر تاريخ الحضارة في أرض بلخ والعديد من المدن الأخرى في جميع أنحاء أفغانستان، وموقع مثل ميس عينك يُعد موطنًا لمجمع يضم ما لا يقل عن سبعة أديرة بوذية تُخفي تحتها هياكل من العصر البرونزي.

ومن المغري الاعتقاد بأن طالبان قد تغيرت، ولمَ لا، فقد تغير العالم برمته. ونريد تصديق أن الحركة سوف تلتزم بتعهدها بعدم إلحاق الضرر بالتراث التاريخي والثقافي للبلد. وتكمن المشكلة في أن طالبان ملتزمة بالنأي بنفسها بعيدا عن “سموم الحداثة”، ومنتسبوها بعيدون كل البعد عن مجريات العصر الحديث، ولا يرغبون في اللحاق بركبه، ولا يرون أي قيمة للموروث الثقافي والتاريخي والإنساني التي تحتضنه بلدهم، ولا يرون قيمة إلا في رؤيتهم حول كيفية العيش في الماضي الغابر.

آثار مهددة بالإندثار
آثار مهددة بالإندثار

ولكن قد يكون هناك ضوء في آخر النفق؛ فحركة طالبان تستهجن تعاطي المخدرات، ولكن ليس لديها أي غضاضة في استخدامها من قبل الآخرين، وفي عام 2000 حظرت الحركة زراعة الخشخاش مثلما حظرت اليوم المتاجرة بالقطع الأثرية التاريخية.

لكن حظر الخشخاش تبخر في نهاية المطاف، واليوم تسيطر طالبان على أكبر مصدر في العالم للمواد الأفيونية غير المشروعة التي تمثل 80 في المئة من سوق الأفيون والهيروين العالمية، والتي حققت حصادا قياسيا في عام 2017 بمبيعات تعادل سبعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لأفغانستان.

أسئلة تنتظر أجوبة

والسؤال المحير هو ما إذا كان يمكن حث طالبان على حماية الموروث الأفغاني من خلال دفع أموال لها نظير ذلك، وقد لا ترى الحركة أي فائدة أو قيمة في تمثال لامرأة من مدينة باكتريا، على سبيل المثال. لكن هل يمكن إقناعها بالحفاظ على ذلك التمثال إذا كان الحفاظ عليه سيُدر عليها بعض الأموال؟ وهل يمكن إنشاء صندوق ائتماني دولي لهذا الغرض؟ وربما لحفظ القطع الأثرية خارج أفغانستان أيضاً؟ وإذا فرضنا تحقق ذلك، فحتى متى؟

وتتبادر إلى الذهن الكثير من الأسئلة، بما في ذلك المعضلة الأخلاقية المتمثلة في تفضيل سلامة الموروث الثقافي على سلامة البشر. ومع ذلك، فمن المؤكد أن ضمان سلامة الموروث الثقافي شيء يستحق العناء وبذل الكثير من الجهد، لكن السؤال هل ستشارك حركة طالبان في ذلك المجهود؟

________

• سنديكيشن بيورو

7