الأوقاف المصرية تختزل أزمة الخطاب الدعوي في تطوير فنون الإلقاء

يعاني الخطاب الدعوي في مصر من حالة تكلس في ظل سيطرة مطلقة للحكومة على الفضاء الديني، والقيود التي تفرضها على الأئمة والخطباء بشأن نوعية المواضيع والأفكار التي يتم التطرق إليها وهي في الغالب مكررة ولا تلقى اهتمام الوافدين على المساجد. ويؤدي هذا الجمود إلى توجه الكثير من المصريين صوب شيوخ السلفية، الأمر الذي بدأت وزارة الأوقاف تعي خطورته لكن تحركاتها تبقى غير كافية.
القاهرة - اعترفت وزارة الأوقاف المصرية أخيرا بأن خطب المساجد يشوبها الجمود والروتين والتقليدية، وقررت إطلاق مشروع يقوم على عصرنة الخطبة لتجاوز جمود الخطاب الدعوي من خلال تدريب الأئمة والخطباء والوعاظ على تقديم الخطبة بمفردات ومعان عصرية ودعمها بكل ما تحتاجه من فنون جديدة في طريقة الإلقاء.
وبدأت كليات الدعوة الإسلامية الأحد في تدريب خطباء وأئمة ضمن المرحلة الأولى التي تستهدف خمسة آلاف إمام في القاهرة الكبرى، وتضم محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية، على يد متخصصين، ويتضمن التدريب تنمية مهارات الإمام والخطيب على بناء الخطبة الحديثة من ناحية المبنى والمعنى والتأكيد على ضرورة أن تكون المقدمة والمتن والخاتمة تتلاءم شكلا وموضوعا مع محتوى وفكرة الخطبة.
وقالت وزارة الأوقاف إن الدورات التدريبية تشمل التركيز على ختام الخطبة، خاصة الدعاء في آخرها، بحيث يكون مناسبا لموضوع الخطبة وبعيدا عن المقدمات والخواتيم المحفوظة الطويلة الروتينية، ويشمل التدريب أن يلمّ الخطيب بموضوعه في الوقت المحدد للخطبة، وفي حدود عشر دقائق فقط.
تستهدف الأوقاف مواكبة الأئمة للتطورات والمستجدات في مسألة الخطاب الدعوي بالمساجد، وبناء خطبة محكمة، ويصبح الخطيب دائم التطوير في أساليبه ولا يركن إلى جمل وعبارات محفوظة دون أن يدقق في معانيها وما قد تسببه من جدل ديني واسع.
منير أديب: ترديد نفس الخطب يكرس جمود الخطاب الدعوي في مصر
ويتم تدريب الخطباء على فنون الإلقاء العصري والأداء الصوتي وإتقان اللغة العربية مع انتقاء الألفاظ والكلمات وتعميم الدعاء بالخير دون اقتصاره على المسلمين فقط، وأن يركز الخطيب على ما يبني ولا يهدم وما يجمع ولا يفرق ويركز على ما يعزز الجانب القيمي والأخلاقي والإنساني في المجتمع دون تمييز أو انتقائية.
وجددت وزارة الأوقاف تمسكها بالخطبة الموحدة، رغم تحفظ البعض عليها بذريعة أنها لا تناسب كل الشرائح باختلاف طباعها وعاداتها وتقاليدها وثقافاتها، فالذي يقوله الإمام على منبر في مدينة يردده زميله داخل المسجد الواقع في منطقة نائية أو حدودية أو ريفية، ما جعل الناس يتعاملون مع الخطبة باعتبارها منفصلة عن الواقع.
ويرى متابعون أن عصرنة الخطبة من خلال فنون جديدة للإلقاء أو تحديث العبارات المحفوظة منذ سنوات لا يكفي لوقف جمود الخطاب الدعوي الذي يتطلب التنوع في الأفكار والقضايا التي يستند إليها الخطيب لاختيار الموضوع الذي يتحدث فيه للناس، وفق المستجدات الحاصلة على الأرض والقضايا التي تكون محل نقاش من الناس.
ويعتقد هؤلاء المتابعون أن أزمة الخطاب الدعوي في المساجد تجاوزت الأداء التقليدي للخطباء والأئمة وترتبط بشكل وثيق بالموضوعات التي تنتقيها وزارة الأوقاف لتعممها على الخطباء وتلزمهم حرفيا بها لكونها تتخوف من انحراف مسار أي منهم وهو على المنبر، ما يتسبب في أزمة تؤلب الحكومة والرأي العام عليها.
ولا يزال أغلب خطباء المساجد، إن لم يكن جميعهم، يردد عبارات حفظها الجمهور نفسه في مقدمات أو خواتيم الخطب، حتى الدعاء صار محفوظا، في حين يكون دور الخطيب فقط إلقاء بعض الجمل التي حددتها وزارة الأوقاف للموضوع، ولا يجوز له الخروج عنها أو الاجتهاد فيها حتى صار إمام المسجد موظفا لا أكثر.
ورأى منير أديب الباحث في شؤون الجماعات المتطرفة أنه صار حتميا على وزارة الأوقاف أن تعيد النظر في خطابها الموجه إلى الناس من خلال المساجد، فمهما كانت الخطبة الموحدة لها ميزة في كونها تُلزم الإمام بعدم الانحراف عن مسار الاعتدال، لكنها تعوده على الاتكالية ولا تدفعه إلى زيادة معارفه أو ثقل مهاراته.
وأضاف أديب لـ”العرب” أن ترديد نفس الخطب يكرس جمود الخطاب الدعوي، بغض النظر عن حداثة الإلقاء من عدمه، وهذا تستثمره جماعات متشددة لتكون لها أرضية خصبة تنشط من خلالها في المجتمع مرة أخرى، طالما أن المساجد لا توفر للناس المعلومات الدينية الكافية حول القضايا الجدلية التي تهمهم بشكل دوري.
ولا يزال المسجد في مصر من أهم الساحات التي يمكنها التأثير على المواطنين وتوجهاتهم الحياتية والسيطرة على علاقاتهم بالآخرين، وأحد أدوات الحكومة لتشكيل الرأي العام في المناطق الريفية والشعبية لارتباط معظمهم بالتعاليم الدينية التي يتم نشرها عبر دور العبادة المتزايدة.
تبدو وزارة الأوقاف غير مقتنعة بأن ابتعاد خطبة الجمعة عن صميم احتياجات الناس من الخطاب الدعوي يدفع البعض منهم إلى الهروب إلى شيوخ السلفية الذين يجيدون التسلل إلى الشريحة التي تبغض الخطب الرسمية وتروج لكونها رسائل حكومية، بحكم أنها لا تتناسب مع تطلعات رواد المساجد.
واطلعت “العرب” على العناوين العريضة لخطب أيام الجمعة لشهر سبتمبر المقبل، وفق ما أعلنته وزارة الأوقاف، وتبين أنها تتحدث عن آيات الاعتبار في القرآن الكريم، والتحذير من الغفلة والبغتة في القرآن الكريم، وحقوق ذوي الأرحام في القرآن والسنة، والجمعة الأخيرة سوف تكون بعنوان أهل الاستجابة في القرآن والسنة.
يتضح من عناوين الخطب الأربع أن الخطاب الدعوي في مساجد وزارة الأوقاف لا يتطرق إلى قضايا اجتماعية ملحة لزيادة التثقيف بأمور حياة الناس والتطرق إلى موضوعات مثل الختان والطلاق والعلاقة الزوجية وتربية الأبناء واحترام المرأة والميراث وحرية العقيدة وغيرها.
ولا يتعارض ضبط خطبة الجمعة مع تجديد الخطاب الدعوي ولا يقتل الاجتهاد، والعصرنة بمفهومها الشامل تقتضي من وزارة الأوقاف ألا تفرض على الناس سماع ما يتعارض مع احتياجاتهم، بل انتقاء ملفات عصرية ومناقشة قضايا تهم الشريحة الأكبر من الناس لمنع لجوئها إلى دروس المتشددين.
ولفت منير أديب في تصريحه لـ”العرب” إلى أنه من صميم الحداثة في الخطاب الدعوي أن يكون موضوع الخطبة مقنعا للإمام قبل الجمهور، فإذا كان قارئا لما يُملى عليه بلا اقتناع سيضيع الغرض ولا يستطيع توصيل رسائله إلى الناس، لكن المعضلة في قتل الاجتهاد مع أنه يفترض أن كل الخطباء وسطيين عقلانيين يناسبون روح الحداثة.
ولا يرفض أغلب الناس أن تكون هناك سيطرة من الجهة المعنية بإدارة شؤون المساجد على ما يُقال في الخطب لمنع تسلل أي خطاب متشدد، لكن لا يصل الأمر إلى حد التأميم الكامل، والبديل أن يتم تطوير أداء الدعاة والأئمة والخطباء بما يتلاءم مع متطلبات العصر لأن محاربة التطرف الفكري لن تتم بحصار مضمون الخطبة في معنى نظري معين، بل بتحسين المضمون والتجويد في الإلقاء.
وأمام الجمود وتغييب حرية الرأي والتعبير والاجتهاد وقائمة المحظورات على الأئمة والخطباء، فإن عصرنة الخطبة تبدأ من توقف وزارة الأوقاف عن البحث عن الصفة الملائكية حتى لا يكون بديل تكميم أفواه رجالها من فوق المنابر منصات التواصل الاجتماعي التي صارت أكثر انفتاحا، وتنتشر عليها خطب الكثير من المتشددين.