الأندلسيون شيدوا القصور فقط ليملأوها بالزخارف

لم تفقد عمارة غرناطة الأندلسية بريقها بعد سقوط آخر مملكة إسلامية حكمها العرب جنوب شرق أوروبا، وقد مثلت بلاد الأندلس برمتها مرحلة مجد الحضارة العربية، في كل المجالات العلمية والأدبية والفكرية والفنية، وتتجلى عظمة الفنون الأندلسية في عمارتها التي ما يزال الكثير من عناصرها شواهد على فترة أبدع فيها العرب خاصة في فنون الزخرفة.
تعتبر جماليات التصميم الزخرفي الأندلسي إجمالا وما يتجلى منها في قصور الحمراء تحديدا من أرقى ما بلغه الفن الزخرفي الأندلسي من تطور اعتمادا على الإبداعات الذاتية لفنانيه بمعزل عن التيارات الفنية في البقاع الإسلامية الأخرى، في بلاد خلت من قبل الفتح الإسلامي من الموروث الفني، وهذا ما أهلها لتتبوأ مكانة بارزة بين مدارس فن الزخرفة الإسلامية.
وتعد الزخارف الأندلسية الشاخصة منذ قرون وثائق فنية وتاريخية ذات أهمية بالغة. من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب “جماليات التصميم الزخرفي الأندلسي لقصور الحمراء في غرناطة” للباحث حازم جساب محمد علي، حيث يتتبع الأسس الفكرية والبنائية لفنون الزخرفة الإسلامية والمرجعيات التاريخية لها في الأندلس قبل وبعد العصر الإسلامي، ويرصد الأسس التاريخية والوظيفية لقصور الحمراء في غرناطة، ويختم بعدد من الملاحق المصورة للتصاميم والوحدات الهندسية والعناصر الزخرفية في هذه القصور على اختلافها.
المفردات الزخرفية
رغم ما تزخر به عمارة الحمراء من ابتكارات في التخطيط والبناء فإن أهميتها الفنية الأساسية تتجسد في الزخرف
يؤكد الباحث في كتابه، الصادر عن دار صفاء بالأردن، على أن الفن الذي نشأ في بلاد الأندلس على مدى ثمانمئة عام وامتد بتأثيراته إلى أكثر من خمسة قرون لاحقة بعد خروج العرب وبلغ القمة في العمارة والزخرفة وصناعة التحف، شكل نقلة نوعية متقدمة على صعيد التصميم والتنفيذ الزخرفي.
ويتجلى ذلك في أروع صوره في عدة مواقع معمارية أثرية حفظها الزمن لتشهد العالم على ما بلغه الفنان المسلم من مقدرة ومهارة، ومنها جامع قرطبة الكبير وقصور الزهراء وقصر الجعفرية في سرقسطة ومئذنة جامع إشبيلية الكبير “الخيرالدا” وقصور الحمراء في غرناطة، فهذه الآثار الأندلسية على كثرتها وأهميتها المعمارية والزخرفية تشكل بقايا قليلة لحضارة عظيمة سادت بلاد الأندلس وازدهرت إلى درجة فاقت كل تقدير، فكانت من أرقى بقاع أوروبا في العصر الوسيط.
يرى محمد علي أن الفن الأموي الأندلسي يتجلى في أرقى صوره في جامع قرطبة الكبير الذي خضع لتوسعات مستمرة امتدت على أكثر 250 عاما، وتبدو مؤثرات بلاد ما بين النهرين المعمارية والزخرفية واضحة في هذا الجامع، تلك التأثيرات المقتبسة عن طريق المغرب العربي الذي شكل حلقة وصل ما بين بغداد والأندلس عبر مصر، فضلا عن التأثيرات البيزنطية والمحلية الإسبانية.
ويعد جامع قرطبة مجمعا لكل العناصر الزخرفية متنوعة الخامات من جصية وحجرية وآجرية وخشبية والمرصعة أحيانا بالذهب والفضة، وتتركز الزخارف بكثافة في المحراب والقباب والمداخل والأسقف وتتضمن مختلف العناصر الزخرفية، والزخارف النباتية هي الغالبة في الجامع على غيرها من الزخارف، فيما تتكون الزخارف المعمارية من الشرافات والحنيات والمقرنصات المندمجة بالجدران.
ويلفت إلى أن المصمم الزخرفي اتبع في تنفيذ زخارف الجامع أسلوب تكرار العناصر الزخرفية مع التنوع والاختلاف، فضلا عن المجموعات الزخرفية الموضوعة داخل ألواح مؤطرة إذ يمثل كل لوح زخرفي تصميما قائما بذاته. وأدى التنوع المنفذ على العناصر المعمارية للجامع إلى ذوبان كتلتها الثقيلة فالشرفات المثلثة المسننة الموضوعة على نهايات الجدران، أكسبتها حالة بصرية مميزة عبر تكرارها الزخرفي الديناميكي الذي أسهم في تهشيم بساطة الخط الأفقي الأعلى ووضوحه، ومنحت كتلة الجدار الضخمة حالة من الخفة والشفافية والدقة جعلتها تتجزأ نحو الأعلى مندمجة مع الفضاء الخارجي ومدغمة معه.
أما زخارف السقف فقد نفذت على ألوح خشبية بطريقة الحفر إذ تختلف زخارف كل لوح عن الآخر وتضمنت عناصر هندسية ذات أشكال سداسية ودوائر ومعينات ونجوم لونت بالأبيض والأزرق والأخضر، إلى جانب العناصر النباتية. واتخذت عقود المقصصة أو المسننة مظهرا زخرفيا ملونا إذ صممت بشكل ثماني كتل متناوبة من الآجر الأحمر والحجر الأبيض، أما تيجان الأعمدة فمؤلفة من ورق الأكانتس الملتفة بشكل فروع مزدوجة على محور التاج تتوسطها زهرة ضمن دوائر متقاطعة تنتهي بقرم.
ويرى أن زخارف قصور الزهراء تعبر بصدق عن ذروة ازدهار الفن الزخرفي القرطبي الأندلسي بل إنها تمثل المولد الحقيقي لفن الزخرفة الإسلامية على نطاق واسع في بلاد الأندلس، فقد زاوجت بين كل المدارس الزخرفية الرومانية والبيزنطية والأموية والعباسية بعد إخضاعها لعملية إبداع تتسم بالعبقرية.
لقد استخدمت في زخارفها الهندسية تقنيات الحفر والرسم المنفذة على الحجر والرخام والجص، إلى جانب استخدام قطع الآجر الأحمر المتداخل مع الحجر الأبيض كعنصر زخرفي في العقود، كما زينت العقود الزخرفية بأقراص وملفات من ورق الأكانتس وسعفات نخيلية وأوراق نباتية وبراعم فضلا عن طرز أخرى مقترنة بتشبيكات ونقوش كتابية. فيما نقشت الزخارف الهندسية الجدارية بهيئة أشرطة ملونة حمراء ذات أشكال مربعة أو مثمنة أو دائرية، نفذت على خامات متنوعة وبتقنيات متعددة منها الحفر الغائر والمشطوب “المائل”.
كثافة الكساء الزخرفي في عمارة قصور الحمراء الفخمة منحتها الأناقة والشفافية وكأن وظيفة العمارة احتضان الزخرفة
ويلفت إلى أن قصور الزهراء اكتسبت فخامتها من تعدد زخارفها النباتية المنحوتة على الحجر أو الرخام واحتشادها في كل مكان، فمعظم عناصرها مستوحاة من الأزهار والأوراق والأغصان ومن أبرزها ورقتي العنب والأكانتس، إذ تعدان من المصادر الأساسية التي استلهم منها الزخرفيون أشكالهم الزخرفية، فقد تنوعت هذه الأوراق وتعددت شحماتها وتخللتها الخروم والنقور، واكتسبت رقة ورشاقة من خلال انثنائها وانتصابها أو عبر تقابلها وتعارضها أو بانعطافاتها الأمامية والخلفية.
ويقول الباحث إن الأندلسيين استخدموا في زخارفهم المعمارية الهندسية الدوائر المتماسكة والمتجاورة والجدائل والخطوط المنكسرة والمتشابكة، فضلا عن الأشكال الهندسية الأخرى كالمثلث والمربع والمعين والخماسي والسداسي، وتركزت الزخارف الهندسية على الأسقف الخشبية والأرضيات وإزارات الجدران الداخلية، إذ زينت بالتشبيكات الهندسية المعقدة ذات النجوم المضلعة والمنفذة بطريقة الزخارف المحفورة أو المرسومة التي تتناوب فيها الأشكال البسيطة الممتدة مع الأشكال القصيرة.
ويعد الفن الإسلامي الأندلسي الأكثر تميزا بنوع من الزخارف الهندسية التي اصطلح على تسميتها بالأطباق النجمية، كما استخدم الفنان المسلم أسسا بنائية لتشكيل الوحدات الزخرفية ومنها أسلوب الحذف والإضافة مع شغل كل فضاء التصميم، فضلا عن أسلوب التشكيل بالاستيحاء وأسلوب التشكيل المتقاطع بشكل منتظم متكرر، وأسلوب التشكيل بتحليل شكل هندسي من الداخل وغير ذلك. كما أبدع فنانو الأندلس في زخارف المقرنصات ذات الأحجام المتنوعة سواء في داخل العمائر أم خارجها، إذ كانت تستعمل كعنصر زخرفي بحت أو تجمع بين الغاية المعمارية والغرض الجمالي معا، إذ تطلب إنشاؤها معرفة معمقة بعلم الرياضيات متقدمة على عصرها.
قصور الحمراء
ينفي محمد علي وجود صلة بين تسمية قصور الحمراء وتسمية سلاطين غرناطة ببني الأحمر، فهي تسمية سابقة لعهدهم ترتبط بالتربة الحمراء الغنية بأكاسيد الحديد لتل سبيكة الذي أنشئت عليه القصور، أما تسمية بني الأحمر بهذا الاسم فترجع إلى جدهم عقيل بن نصر الذي لقب بالأحمر لشقرة فيه، وقد استمر هذا اللون في الظهور بين أفراد الأسرة.
ويوضح “يحيط بقصور الحمراء سور خارجي ضخم تتخلله عدة أبواب تؤدي إلى الخارج وهي أبواب الشريعة والطباق الثلاثة والقمم المسننة، بينما يصل باب السلاح لوحده الحمراء بمدينة غرناطة، ولأبواب الحمراء نسب معمارية ضخمة، إذ تتكون من كتل حجرية وتتضمن الدهاليز المسقفة ذات الانثناءات والتعرجات الكثيرة والمتقاطعة أحيانا، والتي تعد من أرقى نماذج الأبواب في العمارة العسكرية، كما يعلو الأسوار الخارجية العالية المتوجة بالشرفات ممشى للحرس، فضلا عن كونها مدعمة بعدد من الأبراج الضخمة المتوزعة على امتداد الأسوار وعلى مسافات مختلفة، والتي تتألف من 23 برجا من طبقات متعددة، واستخدمت بعض الأبراج للأغراض الحربية فيما استخدمت قاعات القسم الآخر منها لأغراض سكنية وإدارية ومن أهمها قاعة العرش “السفراء” ضمن برج قصر قمارش إذ تشغل الطابق العلوي من هذا البرج المربع الكبير.

الفن الأندلسي نشأ على مدى ثمانمئة عام وامتدت تأثيراته إلى أكثر من خمسة قرون لاحقة بعد خروج العرب كثافة الكساء الزخرفي في عمارة قصور الحمراء الفخمة منحتها الأناقة والشفافية وكأن وظيفة العمارة احتضان الزخرفة
ويتابع أن قصور الحمراء تضم أقساما متعددة إذ تتكون حسب تسلسل بناياتها بعد اجتياز بوابة القصور الرئيسية الحالية والتي تعرف بباب الشريعة “العدل” من: بهو المشور: وبجواره القاعة الذهبية، بهو الريحان: ويمثل أضخم بناء في قصور الحمراء، قصر قمارش: ويضم قاعة العرش التي يجلس فيها الملك، بهو الأسود: وفيه ثلاث صالات ذات أهمية معمارية زخرفية وهي قاعة بني سراج وتقابلها قاعة الأختين وفي الوسط قاعة الملوك، الحمامات السلطانية: وتتألف من عدة طوابق، قصر البرطل: ويمثل أقدم القصور في الحمراء، قصر شارلكان: شيده الملك الإسباني شال الخامس، قصر جنة العريف “القصر الصيفي”.
كما تضم القائمة الأسوار والأبراج: ويحتوي بعضها على حجرات وصالات ومنها برج الأميرات وبرج الأسيرة، القصبة: وتمثل أبراج ضخمة عالية للمراقبة والأغراض الدفاعية، البوابات: ومنها بوابة “باب الشريعة” وتعد من أضخم بوابات الحمراء. فضلا عن أقسام ومبان أخرى بعضها ما زال ناقصا أو في طور الترميم والتنقيب، أما جامع الحمراء الكبير فقد هدمه ملك إسبانيا فيليب الثاني عام 1575م ، ثم أقيمت مكانه كنيسة سانت ماري.
ويؤكد جساب أن كثافة الكساء الزخرفي في عمارة قصور الحمراء الفخمة منحتها الأناقة والشفافية، إذ تبدو وظيفة العمارة مقتصرة على احتضان الزخرفة، كما أسهمت الأخيرة بدورها في التخفيف من ثقل العناصر المعمارية، فتتراءى للناظر كأنها تكاد أن تطير لخفتها، وتميزت الحمراء كذلك باختلاف التصميم المعماري والزخرفي لكل قاعة ورواق وقصر وبرج وباب عن مثيلاتها، فيما أعطت دقة انسجام التصميم العام للأجزاء الداخلية والخارجية للقصور انطباعا لزائرها يختلف عن سواها، إذ يمكن أن نصفها بأنها عمارة فنية زخرفية تم توظيف المواد فيها بطريقة مدروسة، كما اتسمت بفخامة البناء ودقة تفاصيله ومتانة تنفيذه، فغدت رمزا للعمارة العربية الإسلامية في أوج تطورها في العصور الوسطى.
الميزات المعمارية
ويشير الباحث إلى أن المميزات المعمارية للحمراء، تتمثل في المساحات الكبيرة للقاعات وسمك جدرانها الذي يبلغ ثلاثة أمتار عند الأسوار ومترين في أبنية القصور، ولولا هذه المتانة الإنشائية لما استطاعت القصور مقاومة الزلازل المتعددة وأعمال التخريب، إلى جانب تميزها بالتطور الجوهري الذي طرأ على هندسة وزخرفة قبابها المصنوعة من الخشب، والتوظيف الزخرفي غير المسبوق للمقرنصات، إذ زخرفت بطريقة مبدعة تبدو عند التحديق فيها كأنها تتحرك، باستخدام تقنيات مبتكرة تتضمن إدخال كمية محسوبة من ضوء النوافذ الزجاجية الملونة لتتمازج مع ألوان الزخارف ذاتها فتجعلها تتلألأ وتتماوج، كما في سقوف قباب قاعات العرض وبني سراج والأختين. وقد استجمع الفنانون فيها عصارة فكرهم ومنتهى مهارة أناملهم للتوصل إلى تشكيلات جديدة من الفن الزخرفي المعجز.
وكان لتأثير البيئة الصحراوية العربية حضورها في تحول الإيوانات المفتوحة للحمراء إلى أخرى مسقوفة الصحن، وتمثل ذلك أيضا في القاعات المتداخلة والأروقة الضيقة الملتوية، لخلق عمارة مثالية تحتفظ بمناخ معتدل متجدد الهواء وجيد الإضاءة.

ويؤكد الباحث أنه على الرغم مما تزخر به عمارة الحمراء من ابتكارات معمارية في التخطيط والبناء فإن أهميتها الفنية الأساسية تتجسد في تشكيلها الزخرفي المتنوع والكثيف، الممتزج بالنقوش الكتابية متعددة الخطوط والمضامين والمستندة إلى مهارة فنية فذة في التحكم الدقيق بكل الخامات لاسيما الجصية منها، إذ تشكل من هذا الإبداع طرازا جديدا في الفن الزخرفي المعماري، ساد مباني الأندلس والمغرب العربي في القرن الـ14 وامتد في تأثيره إلى زخارف الفنون التطبيقية النسيجية والزخرفية والمعدنية في داخل الإقليمين وخارجهما.
ويضيف محمد علي “تتكامل جمالية التصميم الزخرفي في الحمراء مع جمال التصميم المعماري للقصور وجمال البيئة المحيطة بها من حدائق ونافورات وبرك وسواقي الماء الجاري، في مشاهد مثيرة وممتعة ميزت الحمراء عن غيرها من العمائر الإسلامية، كما تميز التصميم الزخرفي بالتنوع الشديد إذ لا يتكرر التصميم الواحد المنفذ على عنصر معماري معين مرة أخرى في أي من قاعات القصور. لقد اعتمدت التصاميم الزخرفية على المفردات الصغيرة الناعمة وبالغة الدقة المشغولة إلى حد السنتيمتر المربع الواحد، إذ تستمد تلك الزخارف فلسفتها الجمالية من واقع الحمراء وما أحاط بها من ظروف تاريخية وجغرافية خاصة”.
ويخلص محمد علي إلى أن تطور زخارف الجدران والتيجان والأقواس والقباب في قصور الحمراء وطغيانها على فن العمارة، يعد نموذجا صريحا على زيادة تدخل الزخرفة في تكوين فن العمارة الإسلامية المتأخرة، إذ تم الاستعاضة في قصور الحمراء عن ثنائية المبنى والزخرفة بكيان تركيبي واحد، عبر تجريد العناصر المعمارية من وظيفة الحمل وتحويلها إلى عناصر زخرفية بحتة في إطار إنشائي متين وكساء زخرفي كثيف، إذ لجأ النصري أحيانا إلى استخدام الزخارف الجصة المخرمة للتخفيف من ثقل العناصر المعمارية.