الأمين فرحات.. ساق دامية في الدروب الوعرة

الأمين يختصر قصة فنان شغوف في مهنة جاحدة، لكن عزاءه أن قنصه من الصور سوف يحنطه التاريخ كشاهد على من كان شاهدا.
الثلاثاء 2022/03/22
ذاكرة مثقلة بالصور

مدجج بآلة تصويره التي تحشر زومها في كل حدث، يلج الأمين فرحات “زعيم المصورين الصحفيين” كما يحلو لأصدقائه تلقيبه، باب النادي بقامته الطويلة وقد سبقته تعليقاته واحتجاجاته على أداء الحكومة والمعارضة على حد سواء.

اشتعل رأسه وقلبه شيبا واهترأ حذاؤه ودميت إصبعه فوق زناد الكاميرا وهو يركض وراء الأحداث مثل صياد خلف طريدة.

عقود طويلة قضاها الأمين خلف آلته السليطة مثل لسانه الناطق بلكنة “زلاصية” نسبة إلى قبائل “زلاص” وسط البلاد التونسية، والمعروفين بالعناد والمشاكسة والمجاهرة بالرأي.

عاصر كل الرؤساء الذين سكنوا قصر قرطاج منذ الزعيم الحبيب بورقيبة، مرورا ببن علي، ووصولا إلى قيس سعيد.

صوّب وسدد إليهم فلاشاته، دون أن يتوقف كثيرا عند ما كانوا يقولونه، ويكتفي بتسليمهم للمؤسسات الإعلامية التي يعمل معها كصيد يوم كامل من التحري والانتظار والملاحقة.

◙ زعيم المصورين الصحفيين في تونس

تنقضي المؤتمرات الصحفية، تنطفئ أضواؤها وينام أصحابها في أسرتهم الوثيرة الدافئة، بينما يقصد الأمين بيته في أطراف الضاحية الشعبية مع جرابه المثقل مترنحا ومفكرا فيما سيجود به اليوم التالي من صيد لم يعد يلبي حاجات أسرته في عصر الهيمنة الرقمية وتنطع الدخلاء على المهنة.

تعلم الأمين من الكبار الذين يراهنون ويكتبون ويؤرخون بالصورة، خضع لدورات تدريبية داخل البلاد وخارجها. والأهم من ذلك كله أنه مصاب بهذا الغرام المزمن للكاميرا التي أخلص لها وأخلصت إليه إلى حدود التماهي حتى باتا يتشابهان في تركيز النظر على عين واحدة.

يمتلك “زعيم المصورين الصحفيين في تونس” ذاكرة مثقلة بالصور تمتد إلى أزمنة الأبيض والأسود ومتعة التغطيس في أحواض التحميض ثم التثبيت والنشر بالملاقط على حبال الغسيل في الغرف المعتمة.

يحتفظ بوقائع وطرائف حدثت مع شخصيات شهيرة في عوالم السياسة والفن والثقافة، وغالبا ما كان طرفا في صناعتها بحكم مشاكساته وتعليقاته في الندوات الصحفية، إذ كان يرمي بالتعليق المرح على حين غرة فينفجر الجميع ضاحكا وقد كسر حالة التجهم والرتابة.

يقف الأمين فرحات، اليوم، على تخوم عصرين مختلفين إلى حد التناقض المفزع: عصر الاحتفاء بالصورة إلى أقصى درجات التبجيل والتقديس، وعصر التلاعب والاتجار والنزول بها إلى مستوى الابتذال.. وقديما قالت العرب “السلاح يؤذي إن كان بين يدي أرعن”.

رضي صاحبنا بنصيبه من الأفق صحبة آلته البكماء الفصيحة، واختارته حياة الهامش دون أن يختارها، وهو الذي دخل القصور من أوسع أبوابها، مشى على أطراف السجاد الأحمر وجلس إلى الموائد العامرة ثم غادر إلى بيته راجلا.. وأحيانا دون أن يمتلك أجرة الطريق في وسائل النقل العام.

الأمين يختصر قصة فنان شغوف في مهنة جاحدة، لكن عزاءه أن قنصه من الصور سوف يحنطه التاريخ كشاهد على من كان شاهدا.

20