الأمير الصغير يعود إلى كوكبه مؤمنا بأن زمن الأطفال سيأتي

هذه المرة أخطأ فايروس كورونا هدفه وضرب طفلا. فشفيق مهدي الذي اختطفه الموت عن عمر ناهز الخمس والسبعين سنة هو طفل بالمعاني المثالية للطفولة. ليس لأنه قضى حياته وهو يكتب حكايات للأطفال فحسب، بل وأيضا لأن الطفولة كانت جوهر حياته فلا يكفي أن يوصف بأنه كان طفلا كبيرا بل هو الطفل الأكثر براءة ونزاهة وفضولا في العالم.
لم يكن لديه ما يفعله في الحياة سوى الدعوة إلى الحفاظ على الطفولة من جهة كونها الأساس الصحي الذي تنبني عليه شخصية الفرد وعدم تدميرها من خلال الزجّ بها في مغامرات عبثية، تخطئ المجتمعات من خلالها طريقها إلى المستقبل.

حكايات موجهة إلى الأطفال
كان الكاتب العراقي شفيق مهدي يقف عند حدود النبوءة بذلك المستقبل من خلال تبنيه للطفولة والدفاع عن كنوزها. فكان داعية لقيام مجتمع يرعى أطفاله باعتبارهم أساس مستقبله.
كتب شفيق مهدي عشرات الكتب القصصية للأطفال وأنجز في نهاية حياته كتابه الذي هو أشبه بالحلم “ألف حكاية وحكاية”. وكما هو واضح فإن ذلك الكتاب كُتب على غرار الحكايات العربية غير أن حكاياته كانت موجهة إلى الأطفال.
ومنذ أن عرفته قبل عقود انتبهت إلى شغفه العميق بأنسنة الأشياء والمخلوقات ومفردات الطبيعة والكون. كنت على يقين من أنه حين يُترك وحيدا كان ينصت إلى أصوات لم تكن بشرية تنبعث من حوله.
وكما أتوقع فإن الطفل الذي يقيم في داخله لم يتخل عنه حتى آخر نفس من أنفاسه. لقد ودعه أولئك الأطفال غير المرئيين الذين رافقوه عبر سنين حياته وكانوا أصدقاءه قبل أن تودعه عائلته. فهو حبيبهم ونموذجهم ورسولهم الذي لم يسلبه الواقع العراقي المرّ حماسته للدفاع عنهم.
كان شفيق يقدّس الكتابة فكان يغسل يديه ويقرأ آيات قصيرة من القرآن قبل أن يكتب. وهي عادة اكتسبها من رفقته للخطاطين وإعجابه بصنيعهم الفني الذي يعتبره الصنيع الجمالي الكامل. ولطالما كان يعنى بتحسين خطه وتطوير علاقته بالأقلام التي يكتب بها. ولأنني فارقته منذ ربع قرن فلا أدري كيف تعامل مع زمن الكتابة من خلال الكمبيوتر. الأقرب إلى توقعي أنه لم يتخلّ عن عادات الخطاطين الذين يكتبون كلاما مقدّسا.
لم يكتف مهدي بكتابة الحكايات التي كانت فريدة بأسلوبها الحديث القائم على لغة شخصية لم تكن غامضة بالرغم من أنها كانت مشدودة ومتوترة ومقتضبة، بل كتب الموسوعات المبسطة والعميقة والشاملة في الوقت نفسه.
ويمكن اعتبار “موسوعة الطيور” أهم تلك الموسوعات إذ أن مهدي لم يترك طيرا إلا وذكره بطريقة مفصلة ونشر صورة له. وبالرغم من أن تلك الموسوعة كانت موجهة إلى الأطفال غير أن ما أتوقعه أن موسوعة شبيهة لم تصدر باللغة العربية.

الراحل شفيق مهدي كان يقدّس الكتابة
هل كان شفيق مهدي عالم طيور؟
كان حريصا على الدقة العلمية غير أنه في علاقته بالطيور كان شاعرا. كان مأخوذا بالأسطورة التي يظهر فيها الأطفال محاطين بالطيور. وقد لا يصدقني الكثيرون إذا ما قلت إن شفيق كان يبكي حين يرى طائرا في قفص.
في ذلك الزمن كنا نضحك من رهافة حس شفيق، غير أنني أبكي حين أتذكرها الآن. ما لم ننتبه إليه يومها أن شفيق كان متمكنا من لغة الكائنات الأخرى، وهو إذ يبكي فإنه يفكر بالوكالة عن الطائر في الحرية.
كنا نعمل معا وتفرّق جمعنا بحكم الزمن وما حمله من أوجاع، غير أن شفيق مهدي كان الوحيد الذي ظل متمسكا بحلم الطفولة النقي والصافي الذي لم تلوثه الأحداث المؤلمة فكان في أحاديثنا الأخيرة يلحّ عليّ أن أزوّده بمعلومات شخصية لكي يضمها إلى موسوعته عن ثقافة الأطفال في العراق، “هذا هو مشروعي الكبير الأخير”، لم يكمله.
كان ذلك مشروع نبله ووفائه لمشروع ثقافي أحدث صدى عظيما في العالم العربي باعتباره مشروعا رائدا كان العراق مركز إشعاعه وكان شفيق أحد رواده المهمين.
بموت شفيق مهدي مات آخر الأطفال المسلحين ببراءة تقاوم الزيف والكذب والتضليل والتفاهة. كان سليلا نقيا لـ”الأمير الصغير” الذي اخترعه الكاتب الفرنسي أنطوان دي سانت أكزوبيري. فحين شعر ذلك الأمير باليأس من إمكانية إصلاح كوكب الأرض عاد إلى كوكبه وهو ما فعله شفيق مهدي متخذا من فايروس كورونا سببا.
لقد غادرنا شفيق مهدي يائسا مثلما فعل الأمير الصغير، ولكن وصيته لن تغيب. سيأتي زمن الأطفال الذين سيعمرون الكون ببراءتهم.