الأميركي تشارلز بوكوفسكي لم يكن شاعرا سطحيا أو إباحيا

ما تزال قصائد الشاعر الأميركي شارلز بوكوفسكي تلقى الرواج الكبير خاصة لدى الشباب الذين استشفوا فيها روحا شفافة وقسوة واندفاعا كبيرين، علاوة على جرأتها وتملصها من القيود، فواصلت انتشارها رغم نعت النقاد والمدرسين لها بالسطحية، بينما هي تختصر حياة بكامل حرارتها.
تنفتح نصوص الشاعر والروائي الأميركي تشارلز بوكوفسكي (1920 ـــ 1994) على اختلالات الحياة، لتلتقط وتشكل مأساة تناقضات وهزائم الإنسان في مسارات وجوده الذاتي والعام، في نصوص مفعمة ومتوهجه بصور وإيقاعات وتفاصيل مهمشة لكنها حاضرة بقوة في حركة الواقع الإنساني المعاش، تبدو للوهلة الأولى سطحية وعنيفة لكن التأمل يكشف عن عمق فريد لألم يجتاح كل شيء، ألم وواقع حياتي شديد البؤس يحيط بالروح الإنسانية في إصرارها على تحقيق الفرح، الحب، اللذة، والتمرد على كل سائد ومألوف.
وعلى الرغم من تعدد الترجمات لشعر بوكوفسكي إلا أن هذه المختارات التي ترجمها زياد عبدالله وعنونها باسم إحدى مجموعاته “محترقا في الماء غارقا في اللهب”، والصادرة عن منشورات المتوسط، تكشف جوهر خصوصية وفرادة تجربة وصوت الشاعر الأميركي.
رداءة الحياة

الكتاب يحمل أجمل القصائد التي كتبها بوكوفسكي بين عامي 1955 ـ 1973 بعد محاولاته العديدة في القصة
يقول عبدالله في مقدمته “اللعنة كلمة لا بأس بها للبدء مع الشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي والتحلي بشيء من العمق السحيق المتبوع بسطحية خاصة، ربما الضحك أو البكاء، القسوة، الرقة، وغيرها من المتناقضات وهي تتوالى في تعقب له وهو يصرخ ‘أنا كاتب رديء'”. ويضيف “ذات مرة سجّلتُ صوتي وأنا أقرأ قصائدي على مسمع أسد في حديقة الحيوان فزأر بعنف، كأنّه يتوجع، والشعراء كلّهم يستمعون لهذا التسجيل ويضحكون عندما يثملون”.
الرداءة أيضا، وشيء من اللعنة بدأنا بها، تستوجب منه أن يستدرك في قصيدته “أصوات” ويقول “أحيانا حتى الكتّاب الرديئون يقولون الحقيقة”. إنّها رداءة الحياة نفسها ما ستقع عليه في أدب بوكوفسكي، بذاءاتها، والإصرار على الغناء من قعر الجحيم، وعلى حافّته، وكل ما يدفعه إلى الكتابة.
ويضيف “تجاوزت كتب بوكوفسكي قبل موته الخمسين؛ مجموعات شعرية، وقصصية بعضها يختلط بالقصائد. فضلا عن ست روايات. ولعل عدد كتبه بلغ الآن ما يتجاوز هذا الرقم بكثير، ففي كل عام تطالعنا مجموعة قصائد لم تنشر من قبل، ومكتشفات نثرية لم تستقر بين دفتي كتاب كونها نشرت في مطبوعات هامشية ومجلات ‘بورنو’ مثل قصته الأولى ‘بعد رسالة رفض مطولة'”.
ومع ذلك يبقى الأمر مفتوحا على اكتشافات جديدة، غزارته دفعته إلى أن يحب ما قاله ترومان كابوتي عنه “إنه ينسخ فقط”، موصيا في الوقت نفسه الشعراء بالإكثار من شرب البيرة، وحب النساء الجميلات، وكتابة أقل قدر ممكن من القصائد العاطفية، والذهاب إلى مراهنات الخيل.
ويلفت عبدالله إلى أن أدب بوكوفسكي ليست فيه خطوط فاصلة بين القصيدة والقصة والرواية، جميعها تأتي من جهة واحدة هي الحياة، والبشر بلحمهم ودمهم وأوساخهم ونقائهم، فتكون مجتمعة مرآة تحتشد على سطحها شتى أنواع الصور. وعندما يعود تاريخ ما أو أسطورة فإنه لن يقدمها إلا كما لو أنه صادفها للتو في الشارع، فهو يستعيد الموسيقي الروسي بورودين بقوله “في المرة القادمة عندما تستمع لبورودين تذكر زوجته التي استعملت مؤلفاته لفرش علب القطط”.
العزف المنفرد
يضيف “في قصائد المختارات ستحبه امرأة تزرع البندورة في بيتها وأخرى ترسل له قصائد عن الشهوة ويتركها وشاعرة رديئة، خالصا إلى الإيمان بأن امرأة لم تمارس الحب طوال خمس وثلاثين سنة، سيكون قد فاتها أوان الشعر والحب. لا بل إن ‘محترقا في الماء.. غارقا في اللهب’ الذي يحمل أجمل القصائد التي كتبها بوكوفسكي بين عام 1955 ـ 1973” سيأتي بعد محاولاته العديدة في القصة، فهو كتب قصيدته الأولى في الخامسة والثلاثين، وواصلها حتى الرمق الأخير، فاتحا ذراعيه أمام حياة يتقزز منها ويلتهمها. حياة ملؤها الفشل والصخب والهزيمة والفرح.
وكان بوكوفسكي على قناعة تامة بأن “الفرق بين شاعر رديء هو الحظ”. ففي 1955 كان عليه التوجه إلى نيوأورلينز للتعرف إلى ناشره جون ويب. وقبل أن يغادره بوكوفسكي، صرخ جون في وجهه “بوكوفسكي أنت سافل، لكني سأنشر كتابك”. كان هذا طبيعيا جدا، ذلك أن بوكوفسكي هو آخر كاتب يمكنه زعزعة إيمان جون الراسخ بأن الكتاب سفلة متى كانوا بعيدين عن الآلة الكاتبة، وهكذا صدرت مجموعة “بيدها تمسك قلبي” التي اختيرت منها أول مجموعة من القصائد المترجمة ضمن المختارات.

بوكوفسكي كان يكتب بما يشبه العزف المنفرد مصارعا بآلة الكتابة روحا شفافة سرعان ما تتسرب بين السطور
ويتابع عبدالله “بعد نشر بوكوفسكي تلك المجموعة، كان عليه إرضاء جون بكتابة المزيد من القصائد في أحد شهور نيوأورلينز الحارة، حفنة من القصائد وسيتحسن مزاجه. وهكذا واصلت الكتابة”، يروي بوكوفسكي متابعا “سكرانا أنا وجون وزوجته لويز في مطبخه المملوء بالصراصير. كان المكان ضيقا والصفحات 5، 6، 7، 8 مكدسة في حوض الحمام، لا أحد يستطيع الاستحمام. والصفحات 1، 2، 3، 4 كانت في صندوق كبير للثياب، وسريعا لم يبق مكان لأي شيء. في كل مكان أوراق تعلو سبع أقدام ونصف قدم. كنا نتحرك بحذر شديد. الحوض كان نافعا لكن السرير أعاقنا، ولذلك بنى جون علية صغيرة من الخردوات مع سلم، ونام جون ولويز فيها ورحل السرير. صار هناك متسع لتكدس الأوراق”.
بوكوفسكي، بوكوفسكي، في كل مكان.. سأجن، صرخت لويز: الصراصير تدور بينما تتجرع المطبعة قصائد “صليب في يد الموت”.
“أعيش على الحظ” يقول لنا بوكوفسكي، ولعل في هذا الكثير من الحقيقة إن تعلق الأمر بقصائد ثالثة المجموعات المختارة هنا، فلولا صديقه جون توماس وإدمانه على تسجيل أي حديث يجري في غرفته، بما في ذلك عدد كبير من قصائد بوكوفسكي التي كان يقرأها في سهراته معه لينساها بعد ذلك تماما. ولولا مسجل توماس لبقيت إجابة بوكوفسكي كما هي أمام رغبة دار “بلاك سبرو” بنشر كتاب له “ليست لدي أي قصائد جديدة حاليا” ولما عادت القصائد لتستقر بين دفتي كتاب متلقية عنونها بوداعة “في شارع الرعب.. في درب الأسى”، ليمتد ذلك ليشمل رابع المجموعات التي اختيرت منها هذه القصائد أي “محترقا في الماء.. غارقا في اللهب”.
ويرى أن الشهرة لم تدرك بوكوفسكي إلا في الخمسين، كان غارقا في بحر من الكحول، متشردا متنقلا من عمل إلى آخر: سائق شاحنة، غاسل صحون، ساعي بريد، عامل مصعد… مبللا بالحكول وسيلين ودوستويفسكي وهمنغواي وميللر، بينما تطفو “حركة البيت” (Beat Generation) على سطح الأدب الأميركي وروادها وليم بوزوز وجاك كيرواك وآلن غينسبرغ.
ولم ينف بوكوفسكي اتهامات بعض النقاد لأدبه بالسطحية والإباحية، ولم يكن يهتم بصعود المواهب البارزة لأنهم “سرعان ما سيكتبون من سيء إلى أسوأ”. كان يكتب ويمضي، بما يشبه العزف المنفرد على آلة كاتبة يصارع بها روحا شفافة سرعان ما تتسرب بين السطور وتنتقم لكاتبها من كاتبها، بصوص تلوح وتعانق وتصفح، وتتضرع بصرخات لا يلبث أن يعلو رنينها.