الألغام تفتك بالمدنيين في جبال تونس رغم انحسار الإرهاب

تونس من الدول التي استخدمت فيها الجماعات المسلحة ألغاما بدائية مضادة للأفراد وحتى المدرعات.
الاثنين 2023/08/14
تونس من بين 60 دولة ملوثة بالألغام المضادة للأفراد

تونس - عندما أفاق عدنان المعموري من غيبوبته فوق سريره بالمستشفى العسكري، كان أول هاجس يدور بخلده هو كيف سيعود إلى مقاعد الدراسة بيد مبتورة. وقبل أشهر كان هدف عدنان (17 عاما) هو تخطي مرحلة البكالوريا (الثانوية العامة) بتفوق، وقد بدأ خلال العطلة الصيفية بجمع أعشاب الإكليل في جبل سبيطلة المحاذي لقريته لبيعها وجمع تكاليف مستلزماته المدرسية، قبل أن يفجر لغم أرضي أحلامه.

وتسبب انفجار اللغم في بتر اليد اليمنى لعدنان كما ألحق أضرارا بعينه اليمنى، ولن يكون بمقدوره مستقبلا الاعتماد عليها. وهذا أحدث انفجار للغم أرضي تقليدي الصنع بوجه المدنيين الرعاة، من بين أعداد غير محددة من الألغام التي زرعتها الجماعات المتشددة في الغابات وأراضي الرعي بمرتفعات وجبال محافظة القصرين غرب تونس.

وتمتد سلسلة هذه الجبال على مناطق شاسعة بمحافظة القصرين، وإلى أطراف محافظة سيدي بوزيد المجاورة. ولطالما كانت هذه المناطق الجبلية الوعرة حصنا منيعا للجماعات المسلحة الموالية لتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، وتنظيم داعش المتطرّف لاحقا، مع تصاعد أنشطتها بعد ثورة يناير 2011 بتونس. ومن تلك المناطق كان المسلحون يشنون هجمات خاطفة دامية ومباغتة ضد دوريات للجيش والحرس الوطني التونسي، كان أشهرها هجوما 2013 و2014 خلال شهر رمضان، اللذين أوقعا العشرات من القتلى من الجنود.

◙ جبال تونس لطالما كانت حصنا منيعا للجماعات المسلحة الموالية لتنظيم داعش 

ويقطن عدنان مع عائلته في قرية “العيتة” التي تتبع إداريا محافظة سيدي بوزيد، وهو ليس أول ضحية للألغام في المنطقة، إذ سبق أن بترت ساق امرأة من نفس القرية بعد أن لمست لغما مخفيا أثناء الرعي. وقال رياض الأخ الأكبر لعدنان “نحن نعيش مع الخطر كل يوم.. لقد اهتزت معنويات عدنان بشدة. لا يزال تحت تأثير الصدمة ولا يفكر في العودة إلى الدراسة. لم يتقبل بعد وضعه الجديد ويخشى ردة فعل أصدقائه".

وبحسب شهادات عائلة عدنان والمحيطين به، فهو يعد من بين الطلبة المتميزين، وكان قد ارتقى الأول عن الصف إلى الثانوية العامة. ومع أنه حظي بتكريم رئاسي في المستشفى حيث يرقد، إلا أن الخوف من المستقبل يسيطر على تفكير عائلته. وقال أخاه رياض إن "ما يهمنا الآن هو الاهتمام بصحة عدنان، نحتاج إلى دعم من السلطة من أجل وضعيته". وسيكون عدنان أمام تحدّ مضاعف لتحقيق حلمه بالنجاح في الدراسة بعد مسار علاجي طويل. وإلى حين تحقيق ذلك الهدف لن يكون بوسعه التفرغ مرة أخرى لجمع الإكليل في الجبال.

وتعد تونس من بين الدول التي استخدمت فيها الجماعات المسلحة على نطاق واسع ألغاما بدائية مضادة للأفراد وحتى المدرعات. وكان أثرها واضحا على مدى أكثر من عقد في الفتك بالعشرات من العسكريين والمدنيين أثناء عمليات تمشيط في المناطق بالمرتفعات، أو أثناء أنشطة الرعي وقطف الأعشاب. كما تسببت في نفوق حيوانات من قطعان المواشي.

ويشير تقرير إحصائي صدر في 2021 عن مرصد الألغام الأرضية بدعم من الأمم المتحدة، إلى أن المدنيين لا يزالون يمثلون الضحايا الرئيسيين للأسلحة، حيث يمثلون ثماني من كل 10 ضحايا، ويشكل الأطفال ما لا يقل عن نصف القتلى أو المشوهين. وعلى الرغم من أن الرجال والفتيان يمثلون 85 في المئة من جميع الضحايا، يلفت التقرير الانتباه إلى أن النساء والفتيات المصابات يتأثرن بشكل خاص في وقت لاحق من الحياة، عندما يتعلق الأمر بالحصول على المساعدة للضحايا.

وينسحب هذا الوضع على خديجة الرحيمي التي فقدت ساقها بفعل انفجار لغم تقليدي في جبل السلوم بضواحي القصرين عام 2018 أثناء جمعها للحطب.ومن حسن الحظ أن ابنتها الصغرى التي كانت برفقتها لم تصب بأذى في التفجير، لكن ابنة عمها أصيبت في الحادث بأضرار في عينها. وقبل هذا الحادث كانت ابنة خالة خديجة قد لقيت حتفها في انفجار لغم بنفس المنطقة.

ووضعت لخديجة ساق اصطناعية بعد الحادث لكنها اليوم تحتاج إلى المال لاستبدالها بسبب التلف. وتقول بيأس لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) “لم أتلق أي تعويض، ولدي طفلان يتعين علي رعايتهما. أتلقى المساعدات من الجيران لكن هذا لن يحل المشكلة". ويقول شقيقها سالم الرحيمي الذي يعمل باليومية عبر جمع نبتة الحلفاء في الجبل أو فرز القمامة في قرية “المثنانية” الفقيرة “نعيش كل يوم بيومه (..) نحن لا نطلب شيئا، مجرد مورد رزق يحفظ كرامتنا لا أكثر".

◙ المدنيون لا يزالون يمثلون الضحايا الرئيسيين للأسلحة، حيث يمثلون ثماني من كل 10 ضحايا

ومثل عائلة الرحيمي، اضطر السكان العزل في القرى المتاخمة للجبال إلى التعايش على مدى سنوات مع خطر المسلحين المتربصين بهم في المرتفعات والتي تحولت إلى مصيدة قاتلة للمدنيين الرعاة أو الجنود. وكانت أكثر الاعتداءات دموية ما تعرض له الأخوان مبروك (16 عاما) وخليفة السلطاني (21 عاما) حيث تم ذبحهما وقطع رأسيهما في نفس المنطقة بجبل المغيلة بين محافظتي القصرين وسيدي بوزيد، في حادثين منفصلين عامي 2015 و2017 على التوالي.

وعلى الرغم من تصفية أغلب المسلحين في تلك المناطق وانحسار أنشطتهم وهجماتهم، فإنه لا يعرف أعداد الألغام التي تركوها من خلفهم لتعطيل عمليات تعقبهم، وهذه الألغام قادرة على أن تهز مدرعة كاملة. وتعتبر العائلات القاطنة بمحاذاة هذه المناطق أنها دفعت ثمنا باهظا في مكافحة الإرهاب، بسبب انقطاع أنشطتها الاقتصادية جراء الألغام وخسارتها للأرواح، والعاهات الجسدية الدائمة التي لحقت بالمتضررين.

ويشعر المتضرّرون اليوم أنهم تركوا لحالهم دون تعويض أو أفق واضح لحياتهم. ويقول سالم شقيق خديجة “نحن نواجه خطر الموت كل يوم. مللنا الوعود الزائفة من المسؤولين.. تأتي الصحافة دائما إلى هنا لكن لا شيء يتغير. لقد تعبنا”. ومع ذلك، يقول مرصد الألغام الأرضية إنه لا تزال هناك تحديات، إذ أن هناك ما لا يقل عن 60 دولة، بما في ذلك تونس ومناطق أخرى، ملوثة بالألغام المضادة للأفراد. وقالت روث بوتوملي المحررة المساهمة في المنظمة إن “العديد من الدول الأطراف لن تحقق الهدف الطموح المتمثل في إزالة الألغام مع حلول نهاية عام 2025".

4