الأكاديمية اللبنانية نايلة أبي نادر: هدف الفلسفة ليس صياغة حكمة فردية

الفلسفة في العالم العربي تحتاج إلى إشراك أكبر عدد من الجيل الجديد.
الأحد 2023/10/22
العرب يحذرون من ممارسة النقد الفكري كأنه إهانة

يتزامن التطور العلمي المتلاحق وما تضيفه الفتوحات المعرفية إلى رصيد الخبرة الإنسانية مع إعادة النظر في دور المفاهيم الفكرية والفلسفية وما يمكن للعقل الفلسفي تقديمه في حلبة الحياة المعاصرة، هل يكتفي بتهدئة النفوس المتوترة أو يطمح إلى التحرك على مستوى أرحب؟ عن موقع الفلسفة في العالم اليوم والتجربة الشخصية في نضوج الفهم الفلسفي وإمكانية التنقيب في تربة الثقافة العربية بحثا عن بذور العقل الجدلي كان لنا حوار مع الباحثة والأكاديمية اللبنانية نايلة أبي نادر.

قدمت أستاذة الفلسفة العربية والإسلامية في الجامعة اللبنانية نايلة أبي نادر العديد من المؤلفات التي تقارب قضايا الفكر العربي الراهن، نذكر منها “التراث والمنهج بين محمد أركون ومحمد عابد الجابري”، و”الفكر العربي المعاصر والحديث نماذج نقدية”، هذا إضافة إلى نشرها لبحوث ودراسات في الدوريات والمجلات المحكمة، ما جعلها مطلعة على آخر إنجازات الفكر العربي الذي تتحدث مع “العرب” حول أبرز قضاياه.

أدوار الفلسفة

العرب: أين موقع الفلسفة على طاولة يتصدّرها الجدل العلمي ومستقبل الإنسان في زمن يسود فيه الذكاء الاصطناعي؟

نايلة أبي نادر: التحدث عن موقع الفلسفة في عالم اليوم، وعن دورها بخاصة، أمر قد يعتبر تغريدا خارج السرب، في خضم ما يشهده العالم العربي من أزمات، وتحديات، ومخاطر وجودية. إن التطور الملحوظ في مجال العلوم والتكنولوجيا والمعلوماتية يربك فعلا أي إنسان أراد أن يستوعب سرعة جريان الأمور، ويحيط نفسه علما بما يجري. وجاء الذكاء الاصطناعي مع ما يواكبه من أخبار تعظم شأنه، وتعلن عن تقليص دور الإنسان، وغياب الكثير من الوظائف مستقبلا، لكي يفاقم القلق حول الإنسان ومعنى وجوده ودوره، وكيفية إدارة الأزمات التي تعصف به وبالبيئة المحيطة به.

إن كل ما يشهده تاريخ العلم من تطور متسارع لم يمنع إلى غاية الساعة حصول الكوارث التي تقلب الأمور رأسا على عقب، وتجعل الإنسان يعي ضعفه في لحظات القلق والارتياب. كذلك، إن كل هذا التطور لم يوصل بعد إلى السلام المنشود الذي تحلم به الشعوب منذ القدم. إن الغليان الذي يعيش في وسطه إنسان اليوم يدفعه إلى المزيد من الوعي لضرورة التأمل، والتفكر، والبحث عن المعنى. وهو ما يمكن للفلسفة أن تقوم به، من دون أن يسلبها هذا الحق كل ما يتم تناقله حول ما توصل إليه الجدل العلمي ومهارات الذكاء الاصطناعي.

الغليان الذي يعيش في وسطه إنسان اليوم يدفعه إلى المزيد من الوعي لضرورة التأمل والتفكر والبحث عن المعنى

يحضرني في هذا السياق ما قاله ألبرت أينشتاين في كتابه “كيف أرى العالم؟”، “نادى العباقرة المتميزون في الحضارات القديمة، بالسلام بين الأمم، وفهموا دوره؛ أما اليوم فإن موقفهم الأخلاقي قد دفع التقدم التقني بقوة، واكتشفت الإنسانية المتحضرة المعنى الجديد لكلمة السلام: إنه البقاء؛ ومن ثمة، هل بالإمكان تصور أن الإنسان، بروحه وضميره، يمكنه إلغاء مسؤوليته الحقيقية في مواجهة مشكلة السلام؟”.

من الملفت جدا هذا التوقف عند كيفية فهم السلام، وكيفية تصور كل إنسان للسلام. يمكن أن نرى في ذلك دعوة مفتوحة للتفكر الفلسفي، بخاصة مع ما نشهده من حولنا من تدهور وانهيار وتهديد للسلام في مختلف أبعاده، السياسية، والاجتماعية، والنفسية.

نلحظ في المقابل، أن طرح أهمية الفلسفة والدور الذي يمكن أن تلعبه في المجال العربي أمر يكاد لا يحظى بأهمية تذكر، ولا يكترث به كثيرون. ليست الفلسفة همّا يقلق الناس في مجتمعاتنا، ولا مرجعية ضرورية يتم تفقدها واستدعاؤها عند الحاجة، بخاصة في وقت الأزمات الحادة. نعيش في مجتمع الأولوية فيه لرجل السياسة، أو لرجل الدين، للنجوم الفنية أو للأبطال الرياضيين. بالإضافة إلى أنه أصبحت لدينا مرجعيات تيكتوكية تدلو بدلوها، ويسمعها عدد لا بأس به من المتابعين الذين يتأثرون بشكل أو بآخر بما يسمعون ويشاهدون، في مدة زمنية قياسية لا تزيد عن ثوان معدودات.

ب

إن أردنا البحث عن دور للفلسفة في العالم العربي اليوم، نجد أنه نشط أكثر في النطاق الأكاديمي، وبين النخب المثقفة التي تلتقي في ما بينها للنقاش والحوار في سياق المؤتمرات والندوات. ما يلفت انتباهنا فعلا يكمن في بعض المحاولات الجريئة لتقريب الفلسفة من الناس، من خلال البرامج الثقافية التي تعرضها بعض الفضائيات العربية، وذلك منذ سنوات قليلة مضت.

ما يستوقف المشاهد أن هذه البرامج لها نسبة، لا بأس بها، من المشاهدين تتابع التفاصيل، تعلق على المضمون، فتبدي الرأي إما سلبا أو إيجابا بما ورد من أحاديث في سياق الحلقات المنشورة على المنصات الإلكترونية. هناك قنوات عدة أفسحت في المجال لاستضافة الباحثين والمفكرين العرب، وأعطتهم مسافة في برامجها لنشر رأيهم، وعرض فكرهم، وإبداء وجهة نظرهم، هذا أمر يجب أن نشير إليه، ونلحظ أهمية الدور الذي بإمكان الإعلام أن يلعبه بخصوص نشر الوعي والحث على الفكر النقدي.

لا بد أن نتمنى دعم هذه البرامج، ورفدها بالطاقات البشرية الكفوءة والمصادر المعرفية اللازمة، لما لهذه الخطوة من أهمية ملموسة في استنهاض الرأي العام العربي، وحث الباحثين، الشباب منهم على وجه الخصوص، من أجل المضي قدما في الاطلاع على الفكر الفلسفي وبنيته النقدية. وضع الفلسفة في متناول الجميع مهمة يقوم بها الإعلام الذكي والهادف إن أراد فعلا ترك أصداء فكرية قيمة لترددات البث اليومي.

العرب: يلاحظ أن التجربة الذاتية هي البوابة الرئيسة للتناول الفلسفي لدى معظم المفكرين المعاصرين، هل نفهم من ذلك بأن الغرض من التفلسف ليس أكثر من صياغة حكمة فردية؟

نايلة أبي نادر: مع انقضاء عصر التنوير ومرحلة الحداثة في الغرب، دخلت الفلسفة في عصر ما بعد الحداثة، وتميزت هذه المرحلة بأفول الميتافيزيقا والتيارات الفلسفية الكبرى التي تأسست على نظريات راسخة، وشكلت تيارات فكرية معروفة. الأمر الذي نتجت عنه تعددية واضحة في مقاربة الإشكالية الواحدة.

أصبحت أمامنا مروحة واسعة من المقاربات، والمناهج، والرؤى التي من شأنها أن تبرز أهمية التجربة الذاتية، والاختبار الشخصي، وأثر المرحلة التكوينية الخاصة على كل مفكر. أهم ما يميز المسار الفلسفي هي الحرية، والتفلت من القيود المكبلة، والتحليق في عالم البحث عن المعنى. هذا الأمر قد جعلها ترتبط إلى حد ما بالتجربة الذاتية للفيلسوف، بموقعه، وبالزاوية التي من خلالها ينظر إلى العالم. لكن ذلك لن يحولها إلى أسيرة تسعى إلى صياغة حكمة فردية تعني الفيلسوف نفسه، من دون سواه، وتقصي عنها الهم الجماعي والتوق إلى ملاقاة الآخر حيث هو.

للفكر الفلسفي دور لا يمكن الاستغناء عنه في حال أرادت المجتمعات العربية السير نحو التأسيس لنهوض راسخ

يرى برتراند راسل في كتابه “مسائل الفلسفة” أن “الفكر الذي اعتاد على حرية التأمل الفلسفي، سوف يحافظ على شيء من هذه الحرية والحياد في عالم الفعل والانفعال، كما سيرى في رغباته وأهدافه أجزاء ضمن مجموع، وسوف ينظر إليها بانفصال، كشذرات لا متناهية في الصغر لعلم، لا يمكن أن يعير الاهتمام لانشغالات كائن إنساني واحد”. ويتابع في السياق عينه قائلا “إن التأمل الفلسفي، يمنح موضوعات تفكيرنا سموا وشرفا، كما يعظم موضوعات أفعالنا وعواطفنا، إنه يصنع منا مواطني كل العالم، وليس فقط مواطني مدينة، تخوض حربا مع باقي العالم”.

من الضروري لفت الانتباه إلى أن هدف الفلسفة ليس محصورا في صياغة حكمة فردية وحسب، على الرغم من أهمية التجربة الذاتية وما تحمله من انفعالات وقناعات. يمكن أن نلحظ بوضوح أنه عندما يحفر المفكر، فيلسوفا كان أم شاعرا أم أديبا، في عمق كيانه، وينطلق منه إلى مقاربة ما يطرح من حوله من إشكاليات، نجده في غاية الصدق، وهو يلامس من خلال مقاربته جوهرا مشتركا لدى الباقين، إذ ينطلق من الذاتية إلى العالمية بتلقائية واضحة المعالم. تبين جليا أن الحفر في العمق يصل بنا إلى ما هو مشترك، إلى ما له طابع العمومية، إذ إنه يلقى صدى لدى المتلقين على اختلاف توجهاتهم، فيتفاعلون مع الفكر المطروح قبولا أو رفضا.

عندما كانت الفلسفة تسعى في السابق إلى بلوغ المثال الأعلى، وإطلاق النظرية الأصح، كانت هناك أيضا مدارس في المواجهة، تناقش، وتنتقد، وقد تنقض النظرية من أساسها، انطلاقا من ثوابت مختلفة. لذا، يمكن أن نلحظ أن الغرق في الحفر بعمق داخل الذات وتجربتها في الوجود ليس أمرا يؤدي إلى انحراف خطير في هدف الفلسفة، وفي تحوير الحكمة عن مسارها نحو الكلي.

الفلاسفة العرب

_

العرب: ما هي المشكلة التي يجب على الفيلسوف المعاصر أن يتصدى لحلها؟

نايلة أبي نادر: إن كثرة الإشكاليات التي تواجه الفيلسوف المعاصر تجعل مسألة ترتيب الأولويات حاجة ملحة، يقوم بها كل انطلاقا من قناعاته، ومحيطه، ومعاناته، ورؤيته للأمور. على الرغم من أن الإشكاليات التي تطرحها المسألة البيئية والتغير المناخي التي باتت تطال معظم بلدان العالم وشعوبه، إلا أن الأولويات ليست واحدة.

 هناك من مازال ينشغل بفصل الدين عن الدولة، وبتأسيس الديمقراطية وترسيخها في المجتمع. وهناك من يسعى إلى العمل على نشر قيم العدالة والحرية والانفتاح وتقبل الآخر. وهناك من تهمه المسألة الأخلاقية وتدهور القيم، كما أن هناك من بقي منشغلا بالتراث وفي كيفية فهمه وتأويله، وفق أي منهج؟ كذلك هناك مسألة النهضة وإعادة تأسيسها، أم المحافظة على ما سبق أن أنجزه مفكرو النهضة العربية، والبناء عليه.

لذلك، بالنسبة إلي، لا أرجحية لإشكالية على أخرى، كل ما سبق تعداده مهم، وملح، وضروري أن يطرح ليس فقط داخل جدران الأكاديميات على تعددها وتنوعها، إنما أيضا في حلقات النقاش والحوار عبر وسائل الإعلام والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، وذلك لإشراك أكبر عدد من الجيل الطالع، ومن الذين لم تسنح لهم الفرصة بالدخول إلى الجامعة، لكي يشعروا بأنهم معنيون بما يتم طرحه، وبأنه على كل منا أن يعي الثغرات المعرفية التي لديه، لكي يبدأ في التصدي لها، من خلال الاشتغال على نفسه معرفيا وتطويرها قدر المستطاع.

ما يقلقني فعلا اليوم يكمن في عملية التسطيح التي غزت بقوة المناهج التعليمية إن في المدارس أو في الجامعات، هذا عدا عما يعرض في معظم البرامج التلفزيونية، وما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي. هناك حذر واضح لدى البعض من الغوص في العمق وطرح الإشكاليات الفكرية التي من شأنها الحث على البحث والتنقيب، لأن ذلك قد يقلل من عدد المتابعين لما يتم عرضه. فاستقطاب الجمهور هو الأولوية، ورفع نسب المشاهدة يشكل الغاية المرجوة.

الفلسفة ليست مجرد عودة إلى تاريخ الأفكار لدرسه درسا كلاسيكيا كما في مختلف المناهج التربوية إنها مفاهيم ونقد

هذا الحذر أو التردد في مقاربة الموضوعات التي يتم طرحها إعلاميا للجمهور، جرى تبريره بأن ذلك قد ينفر المتلقي المتعب أصلا من معالجة الهموم اليومية، والكفاح للعيش بكرامة. الواقع المأزوم الذي يتخبط فيه قسم كبير من المجتمعات العربية فرض أولويات لا تنهم بالشأن المعرفي أو الفلسفي، الأمر الذي أسهم في المزيد من توسيع رقعة التسطيح.

تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الأسلوب في التبسيط والتسخيف، إن إعلاميا أو تربويا، بدأ يرتد سلبا على الأجيال الناشئة، وعلى المستوى الأكاديمي، كما على الفكر بشكل عام. سياسة التسطيح هي الخطر الأكبر. الهروب من التحديات الفكرية ومن إعمال العقل في حل الإشكاليات التي تواجهه أصبح المشكلة التي يجب التصدي لها، إن من قبل الفلاسفة المعاصرين، أو من قبل المشتغلين بقضايا الفكر، وبالتربية على وجه الخصوص. إن ألقينا نظرة سريعة على كيفية تدريس الفلسفة اليوم، ونمط تقييم التلامذة في الامتحان، نعرف جيدا إلى أي مدى من التراجع وصل إليه حال الفكر الفلسفي. كل ذلك حصل باسم تبسيط الفلسفة لكي لا ينفر منها التلامذة.

إن هذا النهج التسخيفي بات معمما على أكثر من مجال، وليس محصورا بالفلسفة وأهلها فحسب. فعلوم الإنسان بشكل عام باتت تعاني من نقص حاد في الجدية والموضوعية والإبداع والثقافة الوافية التي يجب أن تتوفر لدى المتلقي لكي يتمكن من التفاعل مع الأفكار المطروحة، ويسعى إلى طلب المزيد، حتى ينطلق إلى المدى الأبعد. لقد بات الكلام رائجا على “حكم التافهين”، وسطوتهم على الساحات العامة. إنها معاناة موجعة، عواقبها وخيمة، لم تظهر بعد بوضوح، إذ تحتاج إلى سنين قادمة لكي تتبدى جليا ملامح الكارثة الفعلية.

من الضروري لفت النظر إلى أن الفلسفة لا تنبذ البساطة، ولا تهوى التعقيد والتشابك حبا بهما. هناك فرق بين التبسيط والتسخيف، وليس كل ما هو غارق في الصعوبة دليلا على أنه فلسفي مهم. يحضرني هنا قول لبرغسون يبرز فيه ميزة الفلسفة وفق ما يأتي “إن الفلسفة هي البساطة عينها؛ لكنها بساطة يتوصل إليها بعد مجهود شاق“.

هناك من يغوص بقوة عمق التفكر الفلسفي، فينتج أبحاثا قيمة، وينشر كتبا ترتقي إلى مستوى عال منهجا ومضمونا، لكن للأسف، لا يتم تسليط الضوء كفاية على هذا الإنتاج

العرب: هناك من يعتقد بأن الفلسفة في العالم الإسلامي عابرة ولا توجد لها قاعدة فكرية، إذا سلمنا بحقيقة هذا القول كيف يمكن إيجاد بيئة حاضنة للفلسفة؟

نايلة أبي نادر: هناك رأي سائد له خلفياته الأيديولوجية يقول إن الفلسفة أمر طارئ على الفكر العربي، وبأنها انتهت مع غياب ابن رشد. لا مجال هنا لدحض هذا القول وإثبات الجدة التي أضافها الفلاسفة على القضايا التي طرحوها في مؤلفاتهم. إن الأمر يتعلق بجدل طويل، يجب أن نعود فيه إلى الكثير من المراجع التي أرخت الفكر الفلسفي، وبحثت في جذوره، وتابعت بدقة مساره وتنقلاته بين الحضارات، بخاصة بين جانبي المتوسط، أي بين اليونان والعرب.

ولا داعي للتذكير هنا بالموقف المتشدد الذي واجهت به أوروبا الفلسفة وأعلامها في القرون الوسطى، وبما لقيته بالمقابل من دعم إن ترجمة أو تأليفا في الناحية العربية، بخاصة زمن المأمون، وما نتج عن ذلك من “طفرة معرفية”، كما يسميها محمد أركون الذي بنى أطروحة الدكتوراه التي أعدها على إثبات حضور الأنسنة كتيار فكري في القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي. كما أن محسن مهدي سبق أن برهن بالدرس المعمق تميز فكره السياسي عن فكر أفلاطون، على الرغم من التشابه بين الجمهورية المثالية والمدينة الفاضلة.

كما أنه لا داعي للخوض في مختلف ما ورد من دراسات حول أهمية فكر ابن سينا الإشراقي وما تأسس من بعده من نظريات تأثرت برؤيته الإشراقية. كذلك لن أتوقف هنا عند الجهد الذي بذله محمد عابد الجابري وغيره للبرهنة على عقلانية ابن رشد، ولا عند ما برهنه ناصيف نصار في أطروحته حول واقعية ابن خلدون.

 انطلاقا مما تقدم يسقط افتراض أن الفلسفة ليست لها بيئة حاضنة عربيا، وبأنه غير مرغوب بها على الإطلاق، وبأنها جاءت غريبة وغادرت من دون ترك أثر ممتد في التاريخ.

إبداع المفاهيم ليس بالأمر السلس الذي يتم بلحظة تجل فكري وحسب، إنه نتيجة جهد طويل يمر بمراحل عدة، ويتطلب الكثير من الدقة والدراية

لا بد من أن نذكر اليوم بأن هناك من يغوص بقوة عمق التفكر الفلسفي، فينتج أبحاثا قيمة، وينشر كتبا ترتقي إلى مستوى عال منهجا ومضمونا، لكن للأسف، لا يتم تسليط الضوء كفاية على هذا الإنتاج الذي يبقى مغمورا في جزء كبير منه.

طالما أن هناك إنسانا يقلق، ويطرح الأسئلة المؤدية إلى البحث في أفق المعنى، هذا يعني أن هناك تفلسفا ما. طالما أن هناك من ينشغل بالفكر وبقضاياه ويبحث عن الجذور المعرفية، هذا يعني أن هناك تفلسفا ما. طالما أن هناك محاولة خرق للحدود الفكرية المفروضة من أي سلطة كانت على الوعي، يمكن القول إن شكلا من التفلسف حاصل بنسبة أو بأخرى. طالما أن هناك مراكز أبحاث تنشأ على مد مساحة الوطن العربي، كما في خارجه، وهي تنهم بدراسة التراث، ومعالجة الإشكاليات الخاصة بالنهضة، وبالفكر النقدي، وبمسألة المعرفة وأبعادها، فهذا يعني أن التفلسف مازال ينبض وهو حاضر بشكل أو بآخر في البيئة العربية.

في حال رصدنا إصدارات دور النشر العربية في العقود الثلاثة الأخيرة يمكن أن نلحظ بوضوح أن الفكر الفلسفي العربي المعاصر حاضر على الساحة العربية. المهم أن نتابع ما يتم إنتاجه، ونطلع عليه، ونتفاعل معه، لكي تدور حركة تداول الأفكار وجريانها في المجتمعات، وفي البيئات التعلمية، وعلى المنصات الإعلامية، على تنوعها وتعددها.

التأسيس للنهضة العربية

ه

العرب: يبدو أن ما هو مهيمن إلى الآن على الصعيد الفلسفي هو سرد لتاريخ الفلسفة وليس نحت المفاهيم. هل تعتقدين بأن هذه المرويات عن المدارس الفلسفية يكون لها دور في ترسيخ ثقافة عقلانية بالمجتمعات العربية ؟

نايلة أبي نادر: إذا تفحصنا مسار تاريخ الفلسفة نجد أن درس الفكر الفلسفي يبدأ من اللحظة اليونانية التي شكلت بطريقة أو بأخرى انطلاقة التساؤل الفلسفي والبحث العقلاني عن أجوبة ترضي العقل. هذا البحث لم ينجز من دون اتباع منهج محدد تم تطويره تباعا، واستخدام مصطلحات خاصة تم الاشتغال عليها على مراحل.

من الضروري أن نشير هنا إلى أن التفكر الفلسفي، بمعزل إن كان منشغلا بنحت المفاهيم أو درس النظريات الفلسفية والمدارس البارزة التي صدرت عنها، لا يمكنه أن يكتفي بالسرد التاريخي، من دون التوقف عند المصطلحات وكيفية بنائها وإبداعها. ليست الفلسفة مجرد عودة إلى تاريخ الأفكار لدرسه درسا كلاسيكيا كما في مختلف المناهج التربوية وحسب، إنما هي وفق جيل دولوز وفيليكس غاتاري “فن تكوين المفاهيم وإبداعها وصنعها”. لكن نجدهما يؤكدان، في الوقت عينه، في كتابهما “ما هي الفلسفة؟” على أن “كل مفهوم يملك دائما تاريخا، حتى وإن كان هذا التاريخ متعرجا، ويمر عند الضرورة من خلال مشكلات أخرى أو فوق مسطحات متنوعة”.

لذا، إن الاستعانة بالسرد التاريخي والاشتغال على إبداع المفاهيم خطوتان يحتاج إليهما دارس الفلسفة والمشتغل فيها، لأن نحت المفهوم يتطلب الاطلاع على تاريخه، وكيفية استخدامه من قبل فلاسفة آخرين في الزمن السابق على زمن الدارس الحالي. من هنا، يسدي السرد التاريخي مهمة رئيسة لمن يبغي نحت مفاهيم فلسفية جديدة. الاطلاع على تاريخ الأفكار خطوة ملحة يقوم بها دارس الفلسفة والمشتغل فيها لكي ينطلق في أبحاثه الخاصة، وهو على معرفة بما سبق أن أنتجه الآخرون، لقبوله وتطويره، أو لنقضه والاتيان ببديل عنه.

من هنا بالنسبة إلى السؤال المطروح، فالحاجة تفرض اتباع المسارين لأنهما يتقاطعان في اللحظة الإبداعية. فلا استغناء عن العودة إلى التاريخ من أجل الاشتغال على مفاهيم جديدة، لكن الأهم، عدم الاكتفاء به، أو تكراره بأسلوب مختلف، لا أكثر.

إن إبداع المفاهيم ليس بالأمر السلس الذي يتم بلحظة تجل فكري وحسب، إنه نتيجة جهد طويل يمر بمراحل عدة، ويتطلب الكثير من الدقة والدراية، والتمرس باللغة التي يعتمدها الفيلسوف في تعبيره عن أفكاره. ولا ننسى بأن اللغة العربية لغة غنية بالاشتقاقات وبإمكانية نحت ما هو جديد، لكن ذلك يتطلب معرفة باللغة وقواعدها إلى حد الاحتراف. كما يتطلب انفتاح الذهنية العربية على تقبل المفاهيم الجديدة والترويج لها، لكي تصبح مألوفة. كما أنه يتطلب مرجعية فكرية مرموقة تدرس بعمق ما تم إبداعه وتبدي رأيها فيه، وتعلق على الصياغة والمضمون الذي يحمله هذا المفهوم الجديد.

الفكر الفلسفي يكشف للعقل محدوديته، وللنظرية ثغراتها، وللمنهج تعثراته، فيصبح المجال مفتوحا للنقد والمراجعة والنقاش

العرب: عانت المجتمعات العربية ولا تزال من الصراعات الضارية على خلفية التباين في الانتماءات العقائدية والمذهبية والطائفية. برأيك هل يمكن الرهان على الفلسفة لعقلنة النظر إلى الاختلافات؟

نايلة أبي نادر: إن ما شهدته المجتمعات العربية في نهايات القرن الماضي وبداية الحالي يظهر عمق الترسخ الأيديولوجي لدى كثيرين، مع غياب المراجعة النقدية، بالإضافة إلى انسياق الجماهير لإرادة من يتحكم بالعقيدة أو بالقرار السياسي من دون مساءلة. هناك ثوابت يتم الاشتغال على غرسها في العقول وإقناع العدد الأكبر من الناس بصوابيتها من دون سواها. هناك استسهال في استبعاد الفكر الآخر المختلف الذي ينظر إلى المسائل من زاوية أخرى. هناك حذر شديد من ممارسة النقد الفكري، وتقبله. وكأنما في النقد إهانة، أو تعد على الكرامة، أو تحجيم لشخص ما أو تيار ما أو مدرسة ما، والحد من الهالة المسقطة عليه.

لم يتم التعاطي مع الفكر النقدي انطلاقا من الهم المعرفي، ولا العمل على تطوير هذا الفكر، والتدرب على ممارسته، كما يجب. الفكر الفلسفي من شأنه أن يقوم بمهمة الانفتاح على فكر الآخر، وكسر حاجز الخوف من قراءته، ومناقشة أصحابه، والتحاور مع المقتنعين به. الفكر الفلسفي من شأنه أن يبرز الفرق بين الحقيقة المطلقة التي من الصعب التوصل إلى القبض عليها وحجبها عن الآخرين، وامتلاك الحق الحصري في إعلانها، وبين الحقيقة النسبية الخاصة بكل فرد أو جماعة.

الفكر الفلسفي يكشف للعقل محدوديته، وللنظرية ثغراتها، وللمنهج تعثراته، فيصبح المجال مفتوحا للنقد والمراجعة والنقاش وتقبل الوقوع في الخطأ أو التعثر في عملية القبض على المعنى. يرى كارل ياسبرس في كتابه “الفلسفة والعلم” أن “الفلسفة هي الفعل الذي نصير بموجبه داركين وفاهمين للوجود الحق؛ إنها كذلك التفكير في اعتقادات الإنسان وقناعاته (…)؛ كما أنها السبيل لإدراك الإنسان لذاته عبر التفكير (…)”.

كلما اشتدت الصراعات وتعاظم التباين بين الفرق والجماعات والآراء أصبحت الحاجة أكثر من ضرورية للجلوس على طاولة الفكر المنفتح واستخدام أدوات المنطق والاستماع إلى صوت العقل. التباعد والتنافر والتباغض واللجوء إلى طمس الآخر تمهيدا لإلغائه لا تؤدي إلا إلى المزيد من العنف والتهلكة والخراب والجهل والظلامية.

 للفكر الفلسفي دور لا يمكن الاستغناء عنه، في حال أرادت المجتمعات العربية السير نحو تأسيس فعل نهوض راسخ، والعمل على تطوير البنى الفكرية، والسعي إلى إعادة الأمل في بناء مستقبل يشع بالحرية وقيم الانفتاح والتراحم والأنسنة. هذا ما يؤكده كارل ياسبرس قائلا “إن التفكير الفلسفي فعل باطن، إنه مشحون بالحرية، ويدعو إلى السمو والتعالي”. من هنا تبقى الحاجة إلى الفلسفة ضرورية أكثر من أي زمن مضى، وسط ضياع المعنى، وانتشار التنابذ والتباغض، والتلاعب بالقيم، وفقدان المرجعيات لمصداقيتها.

10