الأفيون من الدين إلى الكرسي

أفيون الكرسي أوحى لأصحاب الكراسي بأنهم خلقوا ليخلدوا فيها، من معمر القذافي إلى حسني مبارك وصدام حسين وآل الأسد.. وغيرهم.
الثلاثاء 2025/03/11
لا يرحل المسؤول إلا للسجن أو إلى القبر

الدارس لتاريخ الحروب، يخلص إلى أنه لا أجدى من الفكرة الدينية لخوض أشرس الحروب وأضراها مهما كانت شرعيتها ومشروعيتها، فلا وسيلة أقدر على غسل الدماغ وشحن النفس، إلا تلك الفكرة التي تجعل الإنسان شجاعا إلى درجة أن يلف نفسه بحزام ناسف من أجل قتل الآخرين وقتل نفسه.

لقد أوجزها كارل ماركس في مقولة “الدين أفيون الشعوب”، بما للمقولة من قدرة على احتضان الظاهرة بتشعباتها وتفاصيلها، وإذ يحاول البعض تعليقها على مشجب الإرهاب الإسلامي، فإن النزاهة تقتضي إدراج كل التجارب والوقائع سواء كانت في الماضي أو الحاضر، فباسم الدين تدار الحروب ويخطط لها، للوصول إلى المثالية التي تغرسها الفكرة الدينية.

لكن اللافت، أن الدين ليس وحده أفيون الشعوب، فالكرسي كذلك له مفعول التخدير اللذيذ، الذي يدفع صاحبه إلى فعل أي شيء من أجل الخلود فيه، وإذا كانت المسألة بالنسبة للأولى قد صارت في حكم الرواية المملة، فإن الأمر في الثانية يستدعي التوقف عنده، خاصة وأنها تمثل مرادفا لأزمة السلطة في العالم العربي والإسلامي.

إلى سنوات مضت وصف الرئيس الجزائري الراحل عبدالعزيز بوتفليقة كرسي المرادية بـ”كرسي الجمر” في أحد خطاباته حيث أظهر خشية من السؤال الإلهي عن وظيفته في هرم السلطة، لكن تحت تأثير لذة وسحر الكرسي، تمسك به وهو في أرذل العمر والصحة، إلى أن ثار الجزائريون ضده، وأسقطوا حلم الخلود في الكرسي.

وبنفس المفعول غامر شباب بالتدرج السريع والطموح الكبير لبلوغ الكرسي الوثير، بخوض سباق التجديد النصفي لمجلس الأمة، ورغم ما للهيئة من هيبة سياسية، إلا أن هؤلاء لم يخفوا تأثير الكرسي على ذواتهم والإيحاء بأنهم مشاريع مسؤولين خالدين في الكرسي، ولو كان عكس ذلك لما غرتهم سنوات قليلة من ممارسة المسؤولية في مجلس بلدي أو ولائي بأن توسع لهم آفاقهم إلى عضوية مجلس الأمة.

وتشكل وضعية رئيس نفس الهيئة صالح قوجيل (95 عاما)، الذي لم يردع حلمه بالخلود في الكرسي، إلا قرار المحكمة الدستورية الذي منعه من المرور إلى ولاية جديدة، حالة أخرى من أفيون الكرسي على الجالسين عليه، ليبقى السؤال مطروحا على أكبر محللي علم النفس، لتفكيك هذه العلاقة وهذا التعلق وهذا الحب الغريب بين الكرسي وصاحبه.

ليس في الجزائر فقط، فمن شرق الأمة إلى غربها، لا يرحل المسؤول إلا للسجن أو إلى القبر، وهو على استعداد لحرق الأخضر واليابس من أجل الخلود فيه، فمرة بتزوير الانتخابات الشكلية، ومرة باسم الشرعية التاريخية والثورية والعائلية، ومرة باسم الخوف على البلاد من المؤامرات الخارجية، يجري تجسيد تلك العلاقة الأزلية بين الطرفين.

ومن الصدف أن تتزامن أحداث الساحل السوري، مع عرض مسلسل معاوية، وفي الحالتين تفوح رائحة الكرسي في محطتين بينهما 14 قرنا من الزمن، فتأثير الكرسي أدخل الأمة في دوامة أزلية، وأتى بأفعال وممارسات يزعم النظام الجديد في سوريا أنه جاء من أجل القضاء عليها، فإذا به يستحضرها بنفس الدموية والإجرام، لتبقى أزمة السلطة في العالم العربي والإسلامي هي نفسها، ويبقى أفيون الكرسي هو نفسه من معاوية إلى الجولاني.

أفيون الكرسي أوحى لأصحاب الكراسي بأنهم خلقوا ليخلدوا فيها، من معمر القذافي إلى حسني مبارك وصدام حسين وآل الأسد.. وغيرهم، ولا يبدو أن طالبان أو تحرير الشام، وقبلهم جبهة الإنقاذ الجزائرية، منزهون أو محصنون من سحر ولذة الكرسي، فالتأثير هو نفسه، وما يمكن أن يتغير هو الجالسون فقط.

18