الأغنية الساخرة وسيلة لمواجهة الواقع الاجتماعي والسياسي

الممثل والفنان السوري محمد خير جراح يحيي فن الأغنية الساخرة من دبي.
الأحد 2022/12/18
رفيق سبيعي فنان الشعب الرائد في السخرية

يبقى الفن الساخر الأكثر تأثيرا في وجدان الناس، والأكثر قابلية ليكون مفهوما للجميع على اختلاف انتماءاتهم وشرائحهم، وقد كرس فنانون ومبدعون كثيرون السخرية في أعمالهم الأدبية أو المسرحية أو الموسيقية، وغيرها الكثير من الأنماط، لنقل أفكارهم في قوالب تكون قريبة من الناس، وتحقق من خلال طرافتها النجاعة القصوى في تمرير رسائل الفنان، التي غالبا ما تكون نقدية للواقع الاجتماعي والسياسي. لعل الأغاني الساخرة أبرز هذه الفنون ورغم خفوتها نسبيا في الواقع العربي إلا أنها مازالت تحظى بانتشار هام.

تقف الأغنية الناقدة الساخرة تجاه الحياة بموقف مغاير للأغنية العاطفية الأكثر شهرة وحضورا. فهي لا تعنى بتقديم حالات الوجد والحب والشوق، بل ترقب مكامن الخلل والتشوهات الإنسانية النفسية أو حالات الظلم التي توجدها الحياة، لتقدم ما تسببه من مظاهر ونتائج، في أفكار تحمل قيم الإصلاح وأحيانا التمرد.

وكثيرا ما حققت بعض الأغنيات الساخرة أصداء طيبة بين جموع الناس وصارعت قوى التخلف والظلم وأفكارهما، إذ يسهل حفظها وتداولها لما فيها من طرافة تشد الناس وتسهم في تمرير أفكارها بسلاسة إلى كل الطبقات والشرائح.

كان الغناء الساخر أحد أشكال المقاومة الذي يلجأ إليه الفنان لمقارعة وضع مأزوم سياسيا أو اجتماعيا. وكثيرا ما حققت السخرية نقدا لاذعا لسلطة أو لمجتمع، وبعض هذا النقد هز كيان نظم سياسية واجتماعية، ودفع فنانون ساخرون حيواتهم ثمنا لذلك، ففن الكاريكاتير ومسرح الكباريه السياسي والغناء الناقد الساخر، كانت دائما على خط المواجهة مع اللحظات المأزومة.

الغناء الساخر

في اتساق مع هذا الفكر، ظهرت في سوريا في ثلاثينات القرن الماضي تجربة غناء ساخر، كانت ندا للاحتلال الفرنسي لسوريا، كان بطلها المغني الشعبي سلامة الأغواني (1909/ 1982) وقد قدم العديد من المونولوجات الناقدة الساخرة التي هاجم فيها الاستعمار الفرنسي.

بوكس

وعلى إثر ذلك، أصدر المندوب الفرنسي في بيروت دي مارتيل بلاغا جاء فيه “يمنع دخول وبيع وترويج واستعمال وشراء الاسطوانة العربية رقم 177 ماركة سودا والتي تحمل تسجيلات أغلب المونولوجات الأغوانية”.

وفي ضوء ذلك، تمت ملاحقته ثم سجنه مرارا بسبب تلك الأغنيات الساخرة التي كانت تنتشر بين الناس بقوة، كانت إحداها عندما انتقد فيها وضع دستور لسوريا ووزارة جديدة فكتب مونولوج “كمل النقل بالزعرور” الذي قال فيه: كمل النقل بالزعرور وكملت الخسارة، اليوم صار عنا دستور وعنا وزارة.

وتظهر تجربة رفيق سبيعي فنان الشعب الذي قدم شخصية شعبية قوية هي شخصية أبوصياح، حيث حضر في فن الأغنية الساخرة، متناولا موضوعات اجتماعية عديدة.

وكانت البداية في 1963 عندما قدم الأغنية الشهيرة “يا ولد لفك شال”، وبعدها العديد من الأغنيات الناقدة منها الأغنية الشهيرة التي تناولت جيل الشباب اللاهث وراء الأزياء والموضة، وهي “شرم برم كعب الفنجان” و”شيش بيش” و”تام تمام” و”الحب تلات ألوان” و”الخنافس” وغيرها.

وفي البعد العربي تظهر تجربة زياد الرحباني في لبنان، الذي قدم في فترة السبعينات أعمالا مسرحية ساخرة عايشت يوميات الحرب الأهلية التي كانت دائرة فيها، فقدم مسرحيات “نزل السرور” و”فيلم أميركي طويل” وغيرهما وضمن هذه المسرحيات أوجد كثيرا من الأغنيات الساخرة، وتابع لاحقا تقديم أغنيات ساخرة بشكل منفرد وتعد بعضها علامات بارزة في تاريخ الفن العربي الساخر منها “أنا مش كافر” و”شو هالأيام” و”يمكن رح ينقطع النفس الباقي بهاليومين”.

لم تتوقف حركة تقديم الغناء الساخر في سوريا، برحيل الأغواني، واستمرت بالظهور بين الوقت والآخر، فقدم رفيق سبيعي عددا من الأغنيات وكذلك العديد من المغنين الشعبيين.

هذا الحضور الخاص للأغنية الناقدة الساخرة ألهم الفنان والممثل السوري محمد خير جراح الممثل الشهير تقديم العديد من الأغنيات الشعبية خلال مسيرته الفنية.

تجربة سورية جديدة

◙ زياد الرحباني من أبرز أصحاب الأغنية الساخرة
 زياد الرحباني من أبرز أصحاب الأغنية الساخرة

في تجربة جديدة، يقدم الفنان السوري جراح مجموعة من الأغنيات الساخرة التي يحكي فيها عن مواجع الناس في واقعنا المعاصر بأسلوب ساخر.

وجراح هو ابن بيئة فنية غنية، تربى على فن مدينة حلب ووالده عبدالوهاب جراح أحد فنانيها المعروفين الذي قدم العديد من الأعمال الفنية الشعبية الناقدة فيها، وتابع محمد خير المسيرة من بعده، فقدم بالتوازي مع فن التمثيل فنا غنائيا راوح فيه بين الشعبي والنقد الساخر.

وأنجز الفنان أغاني كثيرة عن مدينة حلب وأكلاتها الشعبية، ثم قدم أغاني عن الحياة العامة فيها، منها أغنيته الشهيرة “محسوبك أصلو حلبي”، وحديثا أطلق في مدينة دبي أربع أغنيات هي “في شي بالجو العام” و”وعد الرجال” و”ليبقلو” و”عرّم”، ضمها في ألبوم حمل اسم “في شي بالجو العام”، وهو اسم أغنية يخاطب فيها المجتمع بكل أركانه وشرائحه، ويقدم محاورة عقلية تنشأ بينه وبين نفسه أولا وغيره ثانيا، تقول في مطلعها “في شي بالجو العام/ خلاني ما أعرف نام/ خلاني بأرضي متبسمر/ مهموم ومو قادر فكر/ ولا قادر أرجع برجوع/ ولا قادر أمشي لقدام”.

وعن سبب تقديمه لهذه الأغنية بهذا الشكل الفني الساخر، بعد تقديمه الشكل الشعبي البحت سابقا يقول خير جراح لـ”العرب” “الجو العام أغنية تقدم بالنسبة إلي شكلا فنيا محببا، وهو الأغنية الساخرة، وهدفت من خلال ذلك إلى تقديم المتنوع في الأشكال الغنائية، بغية تحقيق المزيد من التميز والنجاح وتقديم المشوق للناس”.

ويضيف “كثيرا ما تعرض علي أفكار وأعمال تنتهج هذا الشكل، وأكون محتارا فيها، وأحيانا أكون في موقف محرج لكونها لا تحقق الرؤية التي أريد. في شي بالجو العام تعاونت فيها مع الصديق خالد حيدر وكانت هدية قيمة منه. حيدر صديق قديم، أعرفه من خلال العديد من اللقاءات العابرة، كنت وإياه متفقين منذ ما يزيد عن العشر سنوات على تقديم عمل فني يجمعنا، نقدم فيه جوا فنيا مختلفا ومفيدا”.

ويتابع جراح “في شي بالجو العام تأخذنا إلى فضاء إنساني عام وتوسع دائرة الاهتمام بالهم الإنساني، فلا يكون محليا فقط، بل هو إحساس عالمي يشعر به كل من يعيش ظروفا مشابهة، أشتغل على الأغنية بحرفية عالية ودقة كبيرة، بقينا مدة شهرين ونحن نعدل ونضيف ونقوم بالتطريز حتى وصلنا للنتيجة النهائية التي ظهرت عليها، وكان لجهد التوزيع الموسيقي دور هام في التنسيق بين الآلات الموسيقية والأصوات الغنائية التي قدمت الأغنية كما نريدها تماما وتحقق الروح العصرية”.

الأغنية الساخرة والمسرح

تقوم الأغنية الساخرة على ميزة هامة هي إمكانية تنقلها بسلاسة علاوة على ارتباطها الوثيق بالواقع وببيئتها

كثيرا ما يقترن تقديم الأغنية الساخرة بفن المسرح الساخر، كونها تظهر فيه بشكل واضح، لكن الأمر لا يقف عند حد التأطير بوجود فن المسرح الساخر كما يرى البعض، فالأغنية الساخرة موجودة بشكل منفصل عن المسرح الساخر، ويمكن لها أن تشكل كيانا فنيا خاصا بها.

وفي هذا الصدد يرى جراح أن “فن الغناء الساخر لا يختلف عن الكباريه السياسي من حيث الجوهر، بل ويلتقيان في مساحات محددة، ويمكن الدمج بينهما في صيغ جميلة، وهذا ما أطمح إليه في أعمالي المستقبلية، بحيث نقدم مسرحا شعبيا ناقدا يتناول مواضيع ساخرة، ومن خلال هذا الشكل المسرحي تقدم الأفكار المختلفة في شتى الاتجاهات”.

ويضيف “كذلك يمكن تقديم الأغنية الساخرة مستقلة عن المسرح ويمكنها تحقيق نجاحات هامة وحدها. والذي دفعني للتوجه نحو الأغنية الساخرة أنها تقوم على ميزة هامة غير موجودة في المسرح الساخر، وهي أنها يمكن أن تنتقل مع الفنان للجمهور وتقدم في أي مكان يكون فيه، كونها أغنية منفردة. أما المسرح الساخر فهو مشروط بكونه مسرحا يجب أن يقدم في صالة محددة يذهب الجمهور إليها”.

ويتابع “هذه الشكلية تعطي الأغنية الساخرة مرونة كبرى، يمكن من خلالها أن تقدم في محطات الإذاعة المختلفة أو مواقع النت أو على المسجلات وغيرها من الوسائل الحديثة للتواصل الإجتماعي. لذلك سأجهد في الفترة الحالية على تقديم الغناء الساخر أو الانتقادي كونه المحبب والمفيد للناس، وبهذا نكون قد ملأنا إلى حد بعيد فراغا كبيرا في مسرحنا وفننا، هو ما يتعلق بالفن الساخر عموما وضمنه الأغنية الساخرة”.

ويرى جراح في حديثه مع “العرب” أن المولد الأساس للفن الساخر هو ما يعايشه الفنان في التفاصيل اليومية في الحياة، واكتشافه مقدار التناقض الصارخ بين ما يجب أن يكون وما يحدث فعلا، خاصة على المستوى الأخلاقي الجمعي، فالبيئة والمنبت الاجتماعي هما المنجم الذي يقدم للفنان الكثير من الأفكار الممكن تقديمها في شكل الفن الساخر.

البيئة الاجتماعية

◙ الغناء الساخر كان ومازال أحد أشكال المقاومة الذي يلجأ إليه الفنان لمقارعة وضع مأزوم سياسيا أو اجتماعيا
 الغناء الساخر كان ومازال أحد أشكال المقاومة الذي يلجأ إليه الفنان لمقارعة وضع مأزوم سياسيا أو اجتماعيا

يقول في ذلك “جميعنا نولد في بيوت وتحيط بنا بيئة قريبة، تتكون من الشارع والحي والمدرسة والجامعة والمدينة. هذه البيئة، الواسعة في مداها والقريبة في يومياتها، تكون المعلم الأول للشخص، حيث يبدأ الناس فيها بتعليمنا بعض الأفكار المتعلقة بالأخلاق العامة، فهذا صح والآخر خطأ. وتبدأ الأفكار بالسكن في وجدان الناس، فمثلا تظهر فكرة الاحترام بشكل عام وبالأخص احترام الكيان الإنساني واحترام الآخرين واحترام المكان، لكن الخبرة الحياتية والمراقبة القريبة توضحان للشخص أن خلاف ذلك ما سيحدث”.

ويواصل جراح قائلا “للأسف عرفنا بعد عقود أن هذه الأفكار والقيم التي تم تعليمها والحديث عنها غير مطابقة للواقع، وأن ما تعلمناه لا نجده في حياتنا اليومية كما يفترض أن يكون. شخصيا، ليس لدي تفسير عن سبب فعل الناس ذلك، ولكن الجواب على هذا السؤال كان لدى الكثيرين بأنه ‘في شي بالجو العام‘، يدفع الناس لكي ينتهجوا ذلك الأسلوب، وهم مقتنعون بأنه يجب تنقية هذا الجو العام من هذه المفرزات السلبية، حتى تكون الأمور أفضل. فمسؤوليتنا في الحياة كبيرة وهامة، فهنالك شي بالجو العام يجب أن يعالج”.

وعما سيقدمه لاحقا في مشروعه الفني يتابع جراح “أقدم الأغنية الناقدة أو الساخرة لأنني أحبها، كما غيري من الفنانين العرب منهم زياد الرحباني الذي أحب موسيقاه، ومعجب بنهجه الفكري والموسيقي، وأنا أرى أنه ظهور استثنائي على صعيد العالم العربي، ولا أبالغ لو قلت على صعيد العالم أجمع، موسيقاه التي يؤلفها أحبها وأعتبرها شكلا خاصا، فهي قريبة من الحياة اليومية وبعيدة عن حالة التطريب العربية السائدة في تراثنا الموسيقي”.

ويضيف “سأقدم ما هو مفيد من خلال مجموعة من الأعمال القادمة، الموضوع ليس سهلا، فوجود مادة نصية ولحنية تتوافق مع أفكارك لتقدمها بهذا الشكل الفني أمر بالغ الصعوبة. لكننا عملنا على تحضير مجموعة قادمة من الأغنيات التي تنحو هذا الشكل الفني الجميل، هنالك أشياء مسجلة وأشياء ستسجل وهنالك أغان سيعاد تسجيلها، قدمها سابقا الفنان الوالد عبدالوهاب جراح، أعدت تسجيل إثنتين منها تصبان في هذا الاتجاه. كانت البداية مع هذه المجموعة التي حملت اسم في شي بالجو العام التي قدمت في دبي، وهنالك أغنية ساخرة هامة قدمها الصديق فتحي الجراح تحمل اسم وعد الرجال أعتقد أنها ستكون ناجحة”.

13