الأغاني الشعبية وثيقة لمرحلة تاريخية محددة تؤرخ لها اجتماعيا وسياسيا

قالب للتفكير والعمل الإنساني وسلطة لها هيمنتها وهيبتها.
السبت 2024/01/20
الأغاني جزء مهم من التاريخ

تعبر الأغنيات الشعبية عن المجتمعات، وعن هويتها التي تميزها عن بقية الأعراق، وتصبح بمرور الزمن وثيقة تاريخية تؤرخ للأوطان اجتماعيا وسياسيا، وهذا ما يؤكده الباحث المصري محمد أمين عبدالصمد في كتاب له يتتبع الأغاني الشعبية المصرية وارتباطها الوثيق بالمجتمع والتغيرات الطارئة عليه.

تظل الأغنيات الشعبية الأغنيات الأوسع والأقوى حضورا وانتشارا والأكثر تأثيرا في مختلف فئات المجتمع المصري، حيث يتتابع بثها في المناسبات العامة والخاصة والمقاهي ووسائل المواصلات الخاصة والأندية، ويحظى مطربوها بشهرة كبيرة لدى شباب الأوساط الشعبية والمتوسطة وحتى الثرية، وتتنوع موضوعاتها ما بين الحب والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أيضا، وتختلف في لغتها وألحانها عن تلك الأغنيات التي يقدمها مطربو وسائل الإعلام الرسمي والقنوات الفضائية.

الكاتب المسرحي د.محمد أمين عبدالصمد مدير إدارة التراث الشعبي بالمركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية في مصر، يتتبع الفنون القولية الشعبية المصرية في مشروعه الضخم الذي ينتظر أن يأتي في ستة أجزاء تصدر عن المركز.

صدر من هذا المشروع الجزء الأول، أخيرا تحت عنوان “الفنون القولية الغنائية”، والذي يتوقف فيه عند خصائص الأغنية الشعبية، ووظائفها، والأغاني البدوية في غرب مصر، والفنون الغنائية في احتفالية الضمة، وفن الواو بجنوب مصر، والموال وفنونه، والأغنية الشعبية في الواحات البحرية، والأغنية كأداة للمقاومة، والفنون الغنائية والقولية في سيوة وفي سيناء.

موضوع أنثروبولوجي

r

أوضح الكاتب في مقدمة الكتاب أن الأغنية الشعبية تتشكل في ضوء الثقافة السائدة، ومضمونها الثقافي هو الذي يجعلها موضوعا للأنثروبولوجيا الثقافية، وخاصة في مجال اللغة والرمز والنظم التي تتضمن الدلالة، وهو ما يعرف “بأنثروبولوجيا الأدب“.

وتقوم الأغنية الشعبية بدور مهم في الحفاظ على البناء الثقافي شكلا ومضمونا، وفي الوقت ذاته تقدم للأفراد المنافذ التي يرضى عنها المجتمع، ويباركها كي ينفسوا عن

أنفسهم من خلالها، ويتخلصوا في بعض الأحيان من الإحساس بعدم القدرة على التكيف مع هذا البناء أو الاستجابة لما يفرضه عليهم، ومن ثم يستطيعون تعديله أو تطويره، لكي يتسع لما يرونه ويرغبون فيه، دونما صدام أو انفعال يؤدي إلى التحطم والتهدم.

وحدد عبدالصمد خصائص الأغنية الشعبية فهي أولا: الشيوع العام، وبديهي أن نقض المحمول لهذه القضية يعتبر غير صحيح، فليست كل أغنية شائعة تعتبر شعبية، فمن الأغاني الشائعة في الوقت الحاضر ما يعبر عن ميول واتجاهات تعارض الاتجاهات

الشعبية، ولا تمثل إلا طبقة ضيقة في المجتمع، فهي ترتبط بحادثة عارضة أو ظروف مؤقتة انبثقت عنها، وبتغير تلك الظروف تفقد الأغنية تأثيرها في الشعب، فلا تكون ضمن مأثوراته، ولا تعبر إلا عن مواقف تاريخية معينة.

ثانيا: ليس للأغنية الشعبية في الغالب نص مدون، لذلك فهي تزدهر بين الأميين في المجتمعات الشعبية، أو متلقي الثقافة شفاهة.

ثالثا: تنتقل الأغنية الشعبية من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى عن طريق الرواية والمشافهة، ومن هنا كان لها أكثر من إطار، مما يجعلها تظهر في نصوص عديدة تعبر كلها عن معنى واحد، ويساعد اللحن على سهولة حفظها وانتشارها، فلا شك أن القول المنظوم الذي يتخذ جرسا معينا، أيسر في الحفظ والنقل من القول المنثور الذي لا يتبع إيقاعا موسيقيا على نحو من الأنحاء.

الأغنية فن يمثل الإنسانية بقدر ما يتلاءم مع الأفكار السائدة في وضع تاريخي ومع حاجات المجتمع وآماله
الأغنية فن يمثل الإنسانية بقدر ما يتلاءم مع الأفكار السائدة في وضع تاريخي ومع حاجات المجتمع وآماله

رابعا: تتسم الأغنية الشعبية بالمرونة وقابليتها للتغير والتشكل بمواجهة الأنماط الجديدة في الحياة، والتعبير عنها، وهذه السمة أو الخاصية تساعد على بقاء الأغنية في ذاكرة الناس فيرددونها كجزء من ثقافتهم.

خامسا: الأغنية الشعبية بما تكتسب من خلود، تساعد على خلود اللحن والموسيقى، الذي تظهر به، فيكون هناك توازن بين الأدب الشعبي والفن الشعبي، والمقصود هنا الموسيقى الشعبية المصاحبة للشعر اللذين يكونان معا الأغنية الشعبية.

سادسا: يرى البعض أن مؤلفي الأغاني الشعبية مجهولون، ولكن لا يمكن القول بأن الأغنية الشعبية ليس لها مؤلف، بل لا بد أن يكون قد أبدعها فرد من الأفراد، ولكنها أصبحت ملكا لعامة الشعب بعد أن ذابت في المأثور الشعبي، وإبداع الأغنية لا يمكن أن يكون من عمل الشعب عامة، ولكنه عمل فردي لاقى الاستحسان والتبني.

سابعا: إذا كانت الأغنية وسيطا في التربية فإنها تنقل القيم وأنماط السلوك السائدة في المجتمع إلى الصغار واليافعين منه، وبهذه الوسائل فإن المجتمع يحقق نوعا من الانسجام الاجتماعي الأساسي، ويحاول الحفاظ على أنماط حياته التقليدية.

ولفت الباحث إلى أن أهمية هذا

الموضوع ترجع إلى أن الأغنية الشعبية أداة اتصال جماهيري، ومبدع هذه الأغنية، وإن كان فردا، فهو في الأساس ابن مجتمعه، خضع لعملية غرس ثقافي شكلت طبعه ووجدانه، دون المصادرة على دوره في إعادة الإنتاج، ومحاولته التنفيس عن المسكوت عنه، وكذلك تعتبر الأغاني الشعبية وثيقة لمرحلة تاريخية محددة، تؤرخ لها اجتماعيا وسياسيا، فالأغنية فن يمثل الإنسانية بقدر ما يتلاءم مع الأفكار السائدة في وضع تاريخي محدد ومع حاجات المجتمع وآماله.

دور حيوي

الأغنية الشعبية تعتبر تمثيلا ثقافيا اتصاليا وتواصليا جمعيا معبرا عن وجدان الجماعة الشعبية وبنيتها العقلية

ما يعطي دراسة الأغنية الشعبية أهميتها الكبرى أيضا مساحة الانتشار والتداول، وكذلك المدى الزمني لاستمراريتها، أي البعدين الأشهر: البعد التاريخي والبعد الجغرافي. والدراسة الوظيفية للأغنية الشعبية هي تحليل للأغنية كمادة أنثروبولوجية للتعرف على الدور الحيوي الذي تؤديه بالنسبة لإطار حضاري بعينه.

وتكمن بلاغة الأغنية الشعبية بوصفها أدب العامة في قدرتها على “التعبير عن خلجات النفس تعبيرا صادقا لا تكلف فيه ولا انفعال”، لذلك “استطاع الأديب العامي من خلال اللغة أن ينفذ إلى أعماق مجتمعه، كما استطاع من خلالها كذلك أن يصور لنا المجتمع تصويرا دقيقا متصلا، وأن يجعل أدبه مرآة صافية تنعكس عليها الحياة في عصره بجوانبها المختلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية”.

ورأى محمد أمين عبدالصمد أن الوظيفة الاجتماعية للأغنية الشعبية تتمثل في الدور المهم الذي تقوم به للمحافظة على مكانة الكثير من أنماط السلوك، والمعتقدات، والعلاقات التي يتفق عليها المجتمع، وتعمل على أن تظل مقبولة من الأفراد. ولعل هذا الدور أو الوظيفة جزء من الوظيفة التعليمية التي تقوم بها الأغاني الشعبية، وغيرها من الأشكال الفولكلورية الأخرى، فهي إلى جانب ما تقوم به من تدعيم لأنماط السلوك، والأفكار والمعتقدات المرضي عنها، تقوم بتبرير وجودها واستمرارها.

كما أن لبعض مضامين الأغاني أهمية كبرى باعتبارها وسائل غير مباشرة لتحقيق قدر من الضبط الاجتماعي على الأفراد لتأكيد سلوك يتفق مع الأعراف التي استقرت لدى المجتمع أو تغيير سلوك ما، قد يكون منافيا للتقاليد التي يحترمها.

هذا الدور التعليمي يؤدي إلى رسوخ الثقافة واستقرارها وتعميقها في نفوس الأفراد، بما يضمن اتساق الفرد وتناغمه مع البناء الثقافي للمجتمع، شكلا ومضمونا، وتقديم هذا البناء للأجيال التالية، وإقناع الفرد بالتلاؤم معها، وتتحقق الوظيفة النفسية الاجتماعية بالتخلص من الضغوط التي يفرضها المجتمع على الأنماط السلوكية ويحظر الخوض فيها. كما أنها تعكس نظرة العقلية الجمعية إلى بعض الأشخاص أو المواقف.

وعلى هذا فالمقصود بالوظيفة الاجتماعية للأغنية الشعبية هو الحث على فعل أو سلوك أو النهي عنه، وكذلك القيام بوظيفة تعليمية إرشادية، وتحقيق شكل من أشكال الضبط الاجتماعي.

تمثيل ثقافي

عادات وتقاليد من سيوة (لوحة: محمد عبدالجليل)
عادات وتقاليد من سيوة (لوحة: محمد عبدالجليل)

أكد المؤلف أن الأغنية الشعبية تعتبر تمثيلا ثقافيا اتصاليا وتواصليا جمعيا معبرا عن وجدان الجماعة الشعبية وبنيتها العقلية، ومعبرا كذلك عن روحها ومعتقداتها وآرائها وقيمها ومثلها العليا وأنماط سلوكها ومنظومتها الأخلاقية وأنساقها المعرفية والثقافية، ومضامينها الفكرية.

وعلى ذلك فالأغنية الشعبية تعبير جمالي بقدر ما هو نفعي عملي (وظيفي) تقليدي ممتد في الزمان، متوارث بين الأجيال، ذائع، منتشر بين أفراد الجماعة الشعبية على نحو تلقائي، فالأغنية الشعبية مشاع في ملكيتها بين أفراد الجماعة الشعبية حتى ولو كانت معروفة المؤلف، إلا أنها لا تلبث أن تنفصل عن مبدعها الفرد، وتتبناها الجماعة الشعبية وتتناقلها باعتبارها ملكا عاما لكل أفرادها.

وأوضح عبدالصمد أن الأغنية الشعبية تتشكل وسط مجتمع، تستمد منه مقوماتها وخصائصها، كما أنها تُقدم في إطار وداخل سياق ثقافي، يعطيها معنى وتؤدي وظيفتها من خلاله، وإذا نزعت الأغنية الشعبية من سياقها وثقافتها فقدت معناها، وكذلك فقدت زمان ومكان أدائها، فأصبحت غير ماثلة بمعناها ومضمونها في ذهن متلقيها.

ولأنها في جوهرها تعبير فني عن وجدان الناس، كما أنها تقدم وصفا دقيقا، ومكثفا لطرائقهم في الحياة وعاداتهم وتقاليدهم، وما يتبنونه من معتقدات وقيم ثقافية، يحرصون على استمرارها وتوريثها، ومن المتفق عليه أن المحافظة على ثبات الثقافة واستقرارها ورسوخها وتعميقها في نفوس الأفراد، جزء من وظيفة الأدب الشعبي وبالأخص الأغنية الشعبية. لذا تقوم الأغنية الشعبية في أي مجتمع بوظائف متعددة سواء ثقافية أو اجتماعية لا غنى للمجتمع عنها، فمن ناحية تعبيرها عن ضمير الجماعة الشعبية ووجدانها نجدها تعلي من شأن المثل العليا.

وأضاف أن “الأغنية الشعبية كظاهرة اجتماعية بجانب خصائصها الجمالية والفنية، فهي هنا قوالب للتفكير والعمل الإنساني، يجد الأفراد أنفسهم مدفوعين إلى الأخذ بها أو إلى أن يصبُوا أفكارهم في حدودها، كما لا يسع هؤلاء الأفراد أن يخالفوها”.

والظواهر الاجتماعية في إلزامها وضغطها لا تخضع لمنطق الأفراد وإنما تخضع لمنطق العقل الجمعي، فهي بمثابة سلطة لها هيبتها وهيمنتها ولا بد للفرد من إطاعتها واحترامها. والأغنية الشعبية تتصف بموضوعيتها، فهي تمارس وجودها بعيدا عن الميول الذاتية والاتجاهات الخاصة، وهي تنتقل كذلك من جيل إلى جيل دون أن تتأثر بتغير الأفراد، ولكنها تتأثر بظروف المجتمع السياسية واللغوية والدينية والاقتصادية.

13