الأشرار لا يغنّون

جيل جديد من الشباب الثوري التونسي اكتشف أغنية “حياك بابا حياك” للعراقي ناظم الغزالي، وتعلق بها صدفة، لمجرد أن المناضل اليساري التونسي شكري بلعيد كان قد أدّى مقطعا منها في مقابلة له مع إحدى القنوات التلفزيونية قبل أسابيع قليلة من جريمة اغتياله.
هي أغنية طربية قادمة من التراث الشعبي العراقي، ومجهولة الشاعر والملحن، لكن محبيه كادوا ينسبونها إليه، وذلك لعذوبة ألحانها ورقة كلماتها المتوافقة مع روح شكري الحقيقية المرحة، والتي اكتشفها الكثير فجأة، مخفية خلف شاربه الكثيف وصوته الهدار، وجديته القادمة من صرامة الماركسية اللينينية، والالتزام بقضايا الفقراء.
كأن المتحدثين باسم الفقراء لا يطربون ولا يضحكون ولا يرقصون، ولا يغازلون في نظر بعضهم أو على الأقل، لا ينبغي لهم أن يجاهروا بذلك على الملأ.
ما يخفى عن الكثيرين هو أن الفقراء أنفسهم، وكذلك المنكوبين والمشردين والمعتقلين، أكثر الناس ميلا إلى الطرب والرقص والغناء إلى حد الانفلات والعربدة.. إذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، طبعا.
نعم، إنهم الذين تتبرأ منهم خاصراتهم عند الرقص، حناجرهم عند الغناء.. وحكوماتهم عند اللزوم، لكن فينا ذهنية تيبّست وتكلّست حتى بات فيها الضحك والمرح “تمييعا للقضية”، وصار التجهم عنوانا لـ”الالتزام بقضايا الشعوب”، فبتنا لا نرى الثوري إلا مقطبا عبوسا قمطريرا.
يكاد بعض الثوريين في بلادنا يمتعض من رؤية تشي غيفارا وهو يرقص الرومبا الكوبية ذات الإيقاع الأفريقي في رمزية أخاذة لتلاقي الشعوب.
وربما تستفز أحدهم صورة نيلسون مانديلا، وهو يرقص منتشيا “رقصة الحذاء الضيّق” المرحة المعروفة بـ”مانديلا جايف”، والتي حاول أن يقلده فيها باراك أوباما في مئويته مستحضرا أصوله الأفريقية.
كذلك غنى زعماء ثوريون كثيرون من فيتنام إلى نيكارغوا، إيمانا منهم أن الأصوات الهاتفة للمستقبل مع جماهيرها يليق بها الغناء.
ولو تأملنا في مجمل الأغاني التي تصدح بها حناجر الطلائع اليسارية، لوجدناها كلها نابعة من قصة حب وديعة وبسيطة كالفلاحين وعمال البناء.
الأغنية التي فتن بها شكري محبيه، وهو الذي تخرج من العراق وخبر لهجته، تتضمن مقطعا يقول “ظليت أنا سهران وارعى نجومي ليش ما جانا، وأتسامر ويه الليل وأجمع همومي الحلو خلّانا، حيّاك بابا حيّاك، ألف رحمة على بيّك”.
هذه الكلمات تلتقي بدورها مع الطريقة الفلسطينية في مخاطبة المحبوب بصيغة المذكّر دائما، وفي سهولة توجيه أغنية الفولكلور نحو نفس نضالي كما في أغنية “يا ظريف الطول” التي غازلت بها في الأصل فتيات قرية فلسطينية شابا غريبا، طويل القامة وشهم الأخلاق كان يعمل فرانا ثم اختفى ليلتحق بالفدائيين المقاتلين للإنجليز في حرب 48.
أما محسوبكم، فلم يسمع من الغزل في المشرق سوى “جاري يا حمودة” التي من الصعب جعلها أغنية ثورية، لكني أحبها.