الأسر المصرية توجه أبناءها إلى التكوين المهني

المدارس الفنية تعيد ترتيب صعود السلم الاجتماعي.
الخميس 2023/08/17
الطريق الأقرب إلى سوق الشغل

أمام طريق الدراسة الجامعية الطويل اختار المصريون في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة اختصار فترة تعليم أطفالهم من خلال إدماجهم في مدارس التكوين الفني التي تمكنهم من دبلوم مهني يفتح لهم باب سوق الشغل مبكرا لمساعدة الأهل وضمان المستقبل في نفس الوقت.

القاهرة - دفعت الصعوبات التي تواجهها العديد من الأسر المصرية جراء ارتفاع تكاليف التعليم واتساع الفجوة بين الشهادات الجامعية واحتياجات سوق العمل إلى التفكير في التعليم الفني كطريق مختصر نحو الحصول على فرصة عمل وسط متاعب معيشية يمر بها الكثير من أولياء الأمور.

وتراجعت هذا العام معدلات القبول بالمرحلة الثانوية التي تنتهي بالحصول على شهادة “البكالوريا”، وتراوحت بين 220 و235 درجة من إجمالي يبلغ 280 درجة، بينما شهدت المدارس التكنولوجية التطبيقية ومدارس التمريض وغيرها من المدارس الفنية ارتفاعا في تنسيق القبول، تراوح بين 230 و265 درجة.

وتخدم هذه المؤشرات خطط الحكومة المصرية التي تسعى للتسويق للتعليم الفني ومخرجاته المختلفة، لكنها تعكس تحولاً مجتمعيا يؤكد أن الشهادات الجامعية لم تعد على رأس سلم أولويات أسر الطبقة المتوسطة والفقيرة، وأن الحصول على فرصة عمل بأقل سنوات دراسية خيار مهم للكثيرين.

وعبرت سلوى إبراهيم وهي والدة طالب بالصف الثالث الإعدادي في تصريح لـ”العرب” عن ارتياحها لقبول ابنها في مدرسة فنية لتعليم صيانة أجهزة التبريد والتكييف، رغم أنه حصل على مجموع يمكنه من الالتحاق بالمرحلة الثانوية العامة، حيث وجدت أنها بحاجة إلى مصروفات دراسية عالية بجانب دروس خصوصية مكلفة إلى حين الحصول على شهادة البكالوريا دون النظر إلى مصروفات الجامعة.

ولن تكون سلوى بحاجة إلى أن تدفع سوى المصروفات السنوية التي لا تتجاوز بضع مئات من الجنيهات سنويًا، وترى أن ابنها لديه فرصة للعمل في إحدى شركات التكييف، معتبرة أن الهدف من التعليم هو ألا يصبح الطفل أميًا ويتعلم حرفة مفيدة.

خطة حكومية لزيادة الملتحقين بالتعليم الفني  من 45 إلى 65 في المئة  في غضون السنوات الأربع المقبلة
خطة حكومية لزيادة الملتحقين بالتعليم الفني من 45 إلى 65 في المئة في غضون السنوات الأربع المقبلة

وتغيرت قناعات السيدة سلوى، والتي يعمل زوجها موظفًا بإحدى الشركات الخاصة أيضَا، بعد أن وجدت أن الوظيفة التقليدية غير قادرة على أن تضعها في مرتبة اجتماعية كانت تعول عليها حينما بدأت العمل كمدرسة، والحال كذلك بالنسبة إلى زوجها الذي يعمل في مجال المحاسبة، مؤكدة أن تراجع قيمة العملة المحلية وعدم مواكبة معدلات التضخم في الكثير من المهن الخاصة والحكومية جعلا هناك حاجة ملحة إلى التفكير بشكل مختلف في التوظيف.

ويمكن للطالب الذي التحق بالتعليم الفني أن يحصل على راتب أسبوعي يضاهي ما يحصل عليه والداه في الشهر الواحد، وهناك طلب يتزايد في مصر على الفنيين الذين يعدون عملة نادرة حاليا، خاصة من يحصل منهم على تدريب ويتمتع بمهارة جيدة.

ونجحت سميرة حمدي وهي والدة طالبة بالصف الثالث الإعدادي، في إقناع ابنتها المتفوقة بأن تلتحق بمدرسة التمريض التي وصل مجموع القبول فيها هذا العام إلى مستوى مرتفع من الدرجات، بينما كانت ابنتها ترغب في الالتحاق بإحدى الكليات الطبية، ويطلق عليها في مصر “كليات القمة”، لكن وفاة زوجها وعدم وجود مصدر للدخل لها باستثناء ما تحصل عليه من وزارة التضامن الاجتماعي تحت مبادرة “تكافل وكرامة” جعلها بحاجة إلى حصول ابنتها على فرصة عمل سريعة لمساعدتها في تحمل مصروفات شقيقاتها الأربع.

وتؤمن سميرة بأن الحصول على عائد مادي يساعد على تحمل صعوبات الحياة هدف رئيسي يدفع نحو تغيير المعتقدات المرتبطة بكليات القمة والتعليم الجامعي.

وترى أن مهنة الممرضة تتماشى مع ابنتها كفتاة، وتواكب رغبتها في العمل في المجال الطبي، وإن كان ذلك غير كاف لتحقيق طموحها، إلا أن الحاجة إلى المال باتت طاغية على الكثير من الأهداف والاحتياجات الأخرى التي يمكن الاستغناء عنها.

وتشير التغييرات الحاصلة لدى الكثير من الأسر إلى وجود رغبة عامة في إعادة ترتيب أولويات صعود السلم الاجتماعي، ولذلك انعكاساته بشأن طريقة التعاطي مع خريجي الجامعة، وثمة أسر أعادت النظر في أفكارها السابقة بعد أن نظرت إلى خريجي التعليم المهني على أنهم مواطنون من درجة ثانية، مقارنة بأقرانهم ممن حصلوا على شهادات جامعية.

ولفت أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة الفيوم (جنوب غرب القاهرة) عبدالحميد زيد إلى وجود جملة من القيم المحورية تتحكم في سلوكيات الناس، وأن التعليم العام أو الثانوي كان يحمل قيمة عليا لدى الكثيرين باعتبار أنه طريق الوصول إلى الجامعة التي من خلالها يمكن خلق فرص للرقيّ الاجتماعي، غير أن ظروف الحياة الآن أصبحت مغايرة، والبطالة المنتشرة بين خريجي الجامعات جعلت غالبية الأسر تعيد التفكير في اتجاهات الأبناء التعليمية.

التعليم الفني طريق مختصر للحصول على فرصة عمل
التعليم الفني طريق مختصر للحصول على فرصة عمل

وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن العلم في حد ذاته كقيمة مفضلة للمجتمع المصري أصبح في درجة أقل مما كان عليها سابقا، ولم يعد موردا مضمونًا من موارد الرزق أو نافذة تمنح الناس فرصا خلاقة لإحداث تحولات في حياتهم، وأضحى المال محور الحياة، كما أن المهن الفنية رائجة الآن، ما خلق ظروفا مجتمعية مختلفة.

وأكد أن المال هو الضمانة الوحيدة لتوفير حياة كريمة للمواطنين، وانعكس ذلك على اختيارات أرباب الأسر لحياة أبنائهم، والبعض من الآباء لا تشغلهم الشهادة الجامعية لمن يتقدم لخطبة بناتهم، فالمهم توافر الإمكانيات التي تجعله قادرا على الوفاء بالتزاماته المعيشية، وهو أمر يمكن أن يوفره العامل الفني الذي يحصل على عوائد شهرية أعلى من الموظف في قطاع آخر.

وتحقق الحاجة الاقتصادية أهدافا حكومية قد لا تتمكن من الوصول إليها عبر سبل الدعاية التي تحاول من خلالها التسويق للتعليم الفني وما شيدته في السنوات الماضية من مدارس تكنولوجية والتوسع في تخصصات تعليمية فنية لم تكن موجودة في السابق، وهو ما يقلل الفجوة بين الشهادات التعليمية واحتياجات سوق العمل.

ولدى الحكومة المصرية خطة كشفت عنها وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية هالة السعيد تسعى لزيادة الملتحقين بالتعليم الفني من 45 إلى 65 في المئة في غضون السنوات الأربع المقبلة، وزيادة مدارس التعليم الفني بالمشاركة مع القطاع الخاص ودعم الدولة، ما يزيد العدد المستهدف من المدارس الفنية والتكنولوجية.

15