الأزمة الجزائرية - الفرنسية: العالم لا يتكون من دولتين فقط

الفرصة سانحة لفواعل فك الارتباط بأن تمضي قدما لأن أمامها أزمة ميؤوسا من حلها ورأيا عاما يريد أن يعرف أن في العالم أكثر من دولتين وهناك في النماذج الأفريقية أمثلة قائمة.
الجمعة 2025/03/07
الخديعة قديمة وعميقة

يقول المناضل والكاتب الجزائري كاتب ياسين صاحب رائعة “نجمة”، إن “أخطر مخلفات الاستعمار، هي جعل الجزائريين يعتقدون أن العالم يتكون من دولتين فقط هما الجزائر وفرنسا،” وهو ما تؤكده يوميا إفرازات الأزمة المشتعلة بين البلدين، حيث تنشغل النخب السياسية والإعلامية بمتابعة أدق التفاصيل والتطورات، وكأنه ليس في وسعها فعل أي شيء آخر إلا ترصد الحركة والسكون في فرنسا، وأن قيودا تكبل الحواس والأذهان والوجدان، وتوهم الناس أنه ليس في العالم إلا الجزائر وفرنسا فقط.

الآن فقط برزت للعلن نتيجة ذلك الارتباط الخفي، بين نخب رسمية وضعت كل بيضها في سلة فرنسا، وكأنه لا سلة أخرى يمكن وضع جزء من البيض فيها، أو سلال يمكن توزيع البيض عليها، وكأن الوضع الذي دام أكثر من قرن وثلث قرن من الزمن، تشكلت فيه مشاهد أنهار الدم وركام الجماجم، لكنه ولّد حالة مرضية مفادها تعلق الضحية بالجلاد.

على مدار ستة عقود من الاستقلال كرست فرنسا المتعجرفة، حصرية الشأن الجزائري، كغيرها من المستعمرات القديمة في أفريقيا، فكانت كمن يخرج من الباب ويعود من النافذة، واضعة نفسها في موقع البوابة التي يتحتم المرور عليها من أجل الوصول إلى الجزائر، وحتى قوى النفوذ فهمت اللعبة وتركت ما لفرنسا لفرنسا، وما لغيرها لغيرها، في إطار تقاسم الكعك المنبثق عن موجة التحرر.

◄ ما يريده الجزائريون هو مكاشفة حقيقية تكشف المتواطئين هنا وهناك، واذا كانت خصال "النومنكلاتورا" واضحة ومعروفة، فإن الوقائع تثبت لصوصية غير مسبوقة في التاريخ

والى غاية الآن لا زالت تحاليل طبية بسيطة تجرى في مخابر فرنسية، والأمن الصحي الذي رهنه في السابق من أوكلوا قاعدة بيانات بطاقة الضمان الاجتماعي “شفاء” لمؤسسة فرنسية، فصار بإمكان الفرنسيين أن يعرفوا كل شيء عن الجزائريين، بما في ذلك أمراضهم وأدويتهم، وذلك ليس لاعتبارات القرب الجغرافي أو حركية النقل أو شراكة صحية عادية، بل لأن التركة التي تحدث عنها كاتب ياسين، هي التي تحكم البلاد والعباد، فنخبة المجتمع، والسياسيون ورجال المال والنافذون يعالجون في المصحات الفرنسية، وحتى وزير للصحة حمل حرمه المصون للولادة في فرنسا.

وزير للصحة لا يثق في قطاعه لكي تلد زوجته، والرجل الثاني في الدولة يملك شقة في باريس، إلى أن يثبت العكس. عينتان من نموذج الاعتقاد الراسخ بأن في العالم دولتين فقط حسب كاتب ياسين، ودولة واحدة حسب المقهورين من بطش استعمار الأمس وجور نخبة الاستقلال اليوم، فماذا سيقول هؤلاء والكثير من أمثالهم، إذا سئلوا ماذا فعلتم طيلة ستة عقود من الاستقلال، وما الذي يربطكم بفرنسا، حتى تبقى الجزائر تصلي على قبلة باريس.

البعض يعلق الأزمة على مشجب اليمين المتطرف، وكأن الذي يغفو ويستفيق على الشأن الجزائري، لا يمثل مؤسسات رسمية في فرنسا وأنه مجرد قوى سياسية متكالبة، أو كأن التيارات المعتدلة ومنها اليسار، ملائكة من السماء تريد الخير والسلام مع الجزائر، رغم أن كل ما في الأمر هو مجرد تفاوت في تقدير المصالح الفرنسية مع محيطها.

ولا زال هؤلاء يراهنون على الانقسام داخل المشهد السياسي الفرنسي لقلب الموازين والعودة إلى الوضع السابق، ويتغافلون عن أن تصاعد الخطاب اليميني المتطرف، هو جزء من اليمين المتصاعد في أوروبا، وإذا كان لكل دولة يمينها واهتماماته السياسية والأيديولوجية، فإن لليمين الفرنسي انشغالا وحيدا هو تصفية ما بقي من حساب الحقبة الاستعمارية، ورغم ذلك يتمسك هؤلاء بنظرية الدولتين الوحيدتين في العالم.

لم تتحرك رموز اليمين، إلا لشعورها بأن بوادر فك الارتباط تتبلور على احتشام في أكبر مستعمراتها القديمة، ولذلك لا يتردد برونو روتايو، في التحذير من مصير المؤسسات الاقتصادية لبلاده، وتراجع التنسيق الاستعلاماتي، ودحرجة اللغة الفرنسية.. وغيرها، لكن على ماذا يخاف أو ممن يحذر من يعتقد أنه في العالم ليس إلا دولة واحدة هي فرنسا؟

◄ فرنسا المتعجرفة، كرست حصرية الشأن الجزائري، كغيرها من المستعمرات القديمة في أفريقيا، فكانت كمن يخرج من الباب ويعود من النافذة، واضعة نفسها في موقع البوابة التي يتحتم المرور عليها من أجل الوصول إلى الجزائر

الآن ثبت أن فرنسا كانت تقيم شراكتها مع طبقة “النومنكلاتورا” (النخبة الحاكمة المنتفعة)، وليس مع الدولة الجزائرية، وهو ما ترجمه استهداف المزايا التي كانت توفرها للمحظوظين في تلك الطبقة، فمرة تشهر ورقة التأشيرات المنضوية تحت لواء الدبلوماسية والمهام، ومرة حسابات وممتلكات هؤلاء، لاعتقادها أن الضغط على الحس الوطني الشعبي لا يثمر شيئا، والحل في الضغط على مصالح الأفراد المنتفعين، وإذا كانت فعلا تريد الخير للجزائر عليها أن تشهر ذلك، وتضعه في صندوق للشعب الجزائري لأنه المالك الحقيقي لتلك الأموال والثروات.

الجزائريون يطالبون رئيس مجلس الأمة صالح قوجيل، (المجاهد والمسؤول المخضرم)، أن يثبت عكس ما كشفه كزافييه دريانكور، عن الشقة التي يمتلكها في باريس، وإلا كانت الصدمة أقوى، وتكون فرنسا قد حققت إنجازا كبيرا وهو تعميق الفجوة بين الشارع الجزائري ونخبه السياسية والرسمية، لأنه بات يتأكد شيئا فشيئا أن الخديعة قديمة وعميقة، وأن العلاقات الجزائرية – الفرنسية كانت بين طبقة منتفعة واستعمار الأمس، وليست بين دولة ودولة. 

ما يريده الجزائريون هو مكاشفة حقيقية تكشف المتواطئين هنا وهناك، واذا كانت خصال “النومنكلاتورا” واضحة ومعروفة، فإن الوقائع تثبت لصوصية غير مسبوقة في التاريخ، وهي التواطؤ في نهب أموال الشعب، وبناء شراكة على مصالح ضيقة للأفراد، وإلا ما معنى أن يخرج الآن فقط، مهاجرون يهددون الأمن الفرنسي رغم أنهم قضوا عقودا فوق ترابها، وتأشيرات تمنح تحت الغطاء الدبلوماسي والمهني، وعقارات وممتلكات جرى نهب وتهريب أموالها من عرق الجزائريين.

الفرصة سانحة لفواعل فك الارتباط بأن تمضي قدما في خطواتها، لأن أمامها أزمة ميؤوسا من حلها، ورأيا عاما يريد أن يعرف أن في العالم أكثر من دولتين، وهناك في النماذج الأفريقية أمثلة قائمة، وأن المصالح الحقيقية هي التي تبنيها الدبلوماسية الهادئة والواعية بالمتغيرات.

8