الأزمة الاقتصادية في لبنان تزيد من شقاء المتقاعدين

ألقت الأزمة الاقتصادية الخانقة بمعاشات المتقاعدين في لبنان في مرمى النيران، حيث باتت رهينة قيود مصرفية مشددة ولم يعد بالإمكان التصرّف فيها، فضلا عن تقليص كبير في رواتب المتقاعدين من القطاع العام والذين وجدوا أنفسهم غير قادرين على تأمين حاجياتهم الأساسية في ظل ارتفاع الأسعار وانهيار الليرة.
بيروت - تسببت الأزمة الاقتصادية في لبنان في انفلات المنظومة الاجتماعية، حيث ضربت شريحة المتقاعدين بالضغط على معاشاتهم وتقليص رواتبهم، حيث تفتقد هذه المنظومة لبرنامج تقاعد يقدم مزايا دورية للعاملين في القطاع الخاص في حالة الشيخوخة والعجز والوفاة.
وحسب بيانات منظمة العمل الدولية يتصف نظام الحماية الاجتماعية في لبنان بانخفاض معدلات التغطية وضعف التنسيق. فقرابة 80 في المئة من السكان فوق سن 65 ليس لديهم تقاعد أو تغطية بالرعاية الصحية، بينما لا يغطي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي سوى 30 في المئة من القوى العاملة.
وحسب المنظمة لم يتم حتى الآن تأسيس صندوق توظيف لحماية الذين يفقدون وظائفهم أو لا يستطيعون إيجاد وظائف. وبشكل عام، لا يزال عدم كفاية الحماية الاجتماعية، والخلاف بشأن المساهمات الاجتماعية، وغياب القوانين الداعمة يؤثر على شريحة كبيرة من السكان ولذلك يعتمد الكثيرون على دخول غير مستدامة كالعمل في القطاع غير المنظم وتلقي دعم من الأسرة، مما يجعلهم محاصرين في دائرة الفقر.
ولبنان هو الدولة الوحيدة في المنطقة وواحدة من 16 دولة من أصل 179 دولة في العالم لم تضع بعد برنامج تقاعد، يقدم مزايا دورية للعاملين في القطاع الخاص في حالة الشيخوخة والعجز والوفاة. إن غياب هذا البرنامج يعني غياب الأمن الاقتصادي لسكان لبنان في مرحلة الشيخوخة وفي حالة العجز ووفاة المعيل.
بعدما جمع ثروة من عمله لعقود في الخارج، عاد سمير مرعي إلى بيروت قبل عقد من الزمن طامحا بتقاعد مريح وحياة رغيدة، من دون أن يضع في حسبانه أن أزمة اقتصادية ستضع جنى عمره في مهب الريح وتدفعه إلى الهجرة مجددا.
2.2 مليون ليرة المعدل الوسطي للراتب التقاعدي ما يعادل 170 دولارا وفق سعر السوق السوداء
في فندق صغير في محلة الحمرا، يتحدّث مرعي (72 عاما) بإسهاب عن استثماره لأربعة عقود في مجالي البناء وصناعة الأزياء بين دول الخليج وبريطانيا. لكن “ملايين الدولارات” التي استثمرها بعد عودته إلى لبنان في قطاع العقارات أو ادّخرها في المصارف، باتت رهينة قيود مصرفية مشددة ولم يعد بإمكانه التصرّف بها.
ويقول الرجل الذي ارتدى بزة رسمية مع ربطة عنق من بهو الفندق “أنا مضطر للبدء من جديد، من الصفر، حتى أؤمن آخرتي”.
وقبل دقائق من سفره إلى الولايات المتحدة حيث يعيش أفراد من عائلته، وقرب حقائب موضبة، يوضح “ما من خيار آخر أمامي”. ويضيف بانفعال “ليعيدوا لي أموالي فلا أغادر إلى الولايات المتحدة.. ماذا سأفعل هناك؟ لا أود أن أموت هناك”.
ويشهد لبنان منذ خريف العام 2019 شحا في السيولة وأزمة اقتصادية لم تبق أي شريحة بمنأى عن تداعياتها. إذ ترافقت مع قيود مصرفية مشددة طالت خصوصا عمليات السحب بالدولار. وأسفر الانهيار المتمادي عن فقدان الليرة الشهر الحالي أكثر من تسعين في المئة من قيمتها مقابل الدولار في السوق السوداء، قبل أن تتحسّن قليلا.
على غرار عشرات الآلاف من اللبنانيين الذين خرجوا إلى الشوارع منذ أكتوبر 2019، يحمّل مرعي الطبقة السياسية مسؤولية ما آل إليه الوضع الاقتصادي. ويتهم المسؤولين بأنهم “فاسدون من رأسهم إلى أخمص قدميهم”.
وبمرارة شديدة، يقول إنه مع اللبنانيين وجدوا أنفسهم بين ليلة وأخرى ضحايا “أكبر عملية احتيال في التاريخ”، مضيفا “ليلعنهم الله جميعا من دون استثناء”.
وإذا كانت ظروف هذا الرجل السبعيني تخوّله فتح صفحة جديدة في بلد آخر، فإن الغالبية الساحقة من المتقاعدين في لبنان ليس لديهم ترف إيجاد خيار بديل. ومن لم يُحتجز تعويضه في المصرف أو فقد قيمته، رأى راتبه التقاعدي يتبدد تدريجيا أمام عينيه.
وبعد 32 عاما قضاها في السلك الأمني، يجد جان عساف (80 عاما) نفسه يعيش كل يوم بيومه، بعدما انخفض راتبه التقاعدي عمليا من 1400 دولار إلى نحو 180 دولارا.
ويقول من داخل منزله المتواضع في منطقة مار مخايل، التي حوّلها انفجار المرفأ المجاور الصيف الماضي إلى منطقة منكوبة، “كنت أتمنى بعد هذا العمر أن أتمكن من أن أعيش حياة كريمة”.
ويقلّب عساف ألبوم صور قديمة، يظهر في إحداها مرتديا الزي الرسمي لقوى الأمن الداخلي. وفي خضمّ الأزمة التي أدت إلى ارتفاع جنوني في الأسعار وتدهور القدرة الشرائية، يحاول اليوم تدبّر أموره وتوفير احتياجاته وزوجته. ويوضح “وفق مدخولي سأعيش”.
على غرار عسّاف، تضرّر أكثر من 108 آلاف موظف متقاعد من القطاع العام جراء الانهيار الاقتصادي وتدهور الليرة. وبحسب بيانات وزارة المالية، يبلغ المعدل الوسطي للراتب التقاعدي 2.2 مليون ليرة، أي ما يعادل نحو 170 دولارا وفق سعر الصرف في السوق السوداء.
وبات عدد كبير من السكان يعتمدون على مساعدات تقدّمها منظمات دولية وجمعيات محلية، بينها جمعية “غراسروتس” التي تستقبل في خيمة تابعة لها في منطقة مار مخايل العشرات يوميا.
ومن بين هؤلاء أديب (69 عاما)، وهو متقاعد من قوى الأمن الداخلي، بات راتبه بالكاد يعادل مئة دولار، بينما أحد ابنيه مهندس عاطل عن العمل منذ عامين.
ويقول الرجل بحسرة “كنت من الطبقة الوسطى وأصبحت اليوم ما دون الطبقة الفقيرة”. وساهمت الأزمة في رفع نسبة من يعيشون تحت خط الفقر إلى أكثر من 55 في المئة، وهو ما أدى وفق محللين إلى اضمحلال الطبقة الوسطى.

وبدأت الجمعية إثر انفجار المرفأ الذي أودى بحياة أكثر من مئتي شخص وشرّد عشرات الآلاف من منازلهم المتضررة، تقديم المساعدات من ثياب ومواد غذائية ووجبة حساء يوميا.
لكن من يطلبون المساعدة اليوم ليسوا فقط من متضرري الانفجار. وتوضح مديرة الجمعية ميسا منصور إن “المتقاعدين خصوصا” هم من أتوا بحثا عن مساعدة خلال الأشهر القليلة الماضية.
وبينما يتوقّف عابرون أمام الخيمة مترددين في الدخول، تقول منصور “يشعرون بالخجل، فهم أناس لم يطلبوا في حياتهم صدقة من أحد”.
في منطقة قريطم الراقية في بيروت، تعيش سارة (68 عاما) مع زوجها فؤاد عمار (76 عاما)، وهما مدرّسان متقاعدان، انخفض إجمالي دخلهما الشهري من أكثر من ستة آلاف دولار قبل نحو عامين إلى 600 دولار حاليا.
ودفع الانهيار الذي لم تنجح القوى السياسية في وضع حد له، وتشكيل حكومة منذ الصيف الماضي جراء الانقسامات الحادة والمحاصصة، اثنين من أولادهما الثلاثة إلى الهجرة بحثا عن بداية جديدة.