الأربعون السلفية.. عن بنية تحتية أخطر من الإخوان

الثلاثاء 2017/09/19

بكتاب صغير يمكن طيّه ووضعه في سيالة الجلباب، يسهل على قارئ صبيّ أن ينكر زمنه، ويلعنه إذا لزم الأمر وهو أحيانا يلزم، ويخاصم أهله، ويعزي نفسه بحديث “بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ”، تمهيدا للانتقال إلى القرن الثالث عشر الميلادي حيث عاش الإمام النووي، وجمع مؤلفاته وأشهرها “رياض الصالحين” و”الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار”، و”الأربعون النووية” الذي ارتبط باسمه وصار كلاهما دليلا على الآخر، عبر جسر ينتظم في أربعين حديثا في العقيدة والزهد والجهاد والأخلاق وفضائل الأعمال، وصولا إلى الردّة التي تتوارى معها سماحة القرآن، فيخرج السيف من غمده مشرعا بتهديد يفضح التقية الإخوانية والورع السلفي، في تكفير داعشي لا ينقصه إلا المصطلح.

“الأربعون النووية” كتيب درسنا أحاديثه وحفظناها، في حلقات درس صغيرة بالمساجد تدرب الصبية على إلغاء المنطق، والتضحية بثمار خيال السؤال، والاستهانة بقدرات العقل، استنادا إلى حديث “أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا”، وفي تعريف قادة حلقات الدرس للمراء أنه الجدال، ويتسلحون بتجمع تاريخي أبدي غامض اسمه أهل السنة والجماعة نهوا عن الجدل ولا يكون على الصبية إلا التسليم، فتنزل “الأربعون النووية” منزلة أسمى من القرآن؛ لتناقض بعض أحاديثها مع النص القرآني، وخصوصا ما يجعل القتل حدّا لعقوبة، ومنها “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث… والتارك لدينه المفارق للجماعة”، وقد رواه كل من مسلم والبخاري الذي دعم هذا الحديث بآخر أكثر إيجازا “من بدّل دينه فاقتلوه”.

ولم نكن وقد نهينا عن الجدل وإعمال العقل لنجرؤ على السؤال عما إذا كان هذا التعميم يشمل اليهودي إذا اعتنق المسيحية، والمسيحي إذا أسلم؟ فكلاهما بدّل دينه، ولا نقول إن القرآن لم يأمر بقتل المرتد، وتكفينا آية “إن الذين آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا كفرا، لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا”، فلو كانت الردة موجبة للقتل، فكيف ينجو منه مرتد ثلاث مرات، ثم يكون حسابه عند ربه؟

انتهى الإمام النووي (1233- 1277 ميلادي) من جمع هذه الأحاديث في 29 جمادى الأولى 668 هجري (24 يناير 1270 ميلادي)، وقال إن “كل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين”.

ماذا يفيد مسلما صلى العيد، ويستعد لذبح أضحيته، أن يقرأ حديثا عن تعذيب غير المسلمين في النار؟

وقد شهد الرجل عدوان التتار، ولعل ذلك السياق يفسر شيئا من الانحياز في اختيارات يجب ألا تمتد إليها قاعدة “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”، ومن هذه الاختيارات حديث رواه الشيخان عن عبدالله بن عمر “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى”.

من الآثار الكارثية لضيق الأفق في فهم “عموم اللفظ” أن نبتلى برجل سادي يتأكد لسامعه أنه هارب من مستشفى الأمراض النفسية قبل استكمال علاج اختلاله العقلي، اسمه أبوإسحق الحويني، يريد العودة إلى ما قبل عصر الإمام النووي، حين كان الغزو والسبي جزءا من الاقتصاد العالمي، ويلح على استعادة تلك الكوميديا لإنعاش الكساد الاقتصادي في العالم الإسلامي، “الفقر اللي احنا فيه سببه ترك الجهاد.. من يرفض هذه الدعوة سنقاتله ونغزوه ونأخذ أموالهم ونساءهم وأولادهم.. كل واحد مجاهد كان بيرجع من الجهاد وجيبه مليان.. معاه ثلاث رجالة، وثلاث أو أربع نسوان، وثلاث أو أربع أولاد.. وكل ما يتعذر يأخذ رأس يبيعها ويفك أزمته”. الكارثة الأكبر أن للحويني أنصارا نال بعضهم شهادات جامعية في كليات الطب والهندسة والصيدلة، ويرونه “محدّث العصر”.

في الصبا كانوا يعلموننا أن القناعة كنز الفقراء، فنستعلي على قسوة الحياة بما نظنه معرفة بالدين. والآن، بعد أن جنى فقراء الخيال ثمار الغربة في الخليج، عادوا للإنفاق على “الدعوة”، ببذخ يكفي لتدمير عقول جيل يتأسس على وهم التفوق الكاذب على غير المسلمين، ويجهل حقوق المواطنة، والأكثر خطورة أنه سينشأ مضطرب الشخصية، منشطر الوعي، مذبذبا بين عنف يستمده من تمثيله للدين، وخنوع نتيجة نزع الإرادة، فلا يكون إلا كسولا قدريا عاجزا عن التغيير، وإليكم الدليل:

خرج المصلون، من صلاة عيد الأضحى قبل أيام، وفي أيديهم استنساخ لكتاب النـووي، وتـواضع الجامع المجهـول للأحـاديث فلم يقرن عنوان الكتاب باسمه كما فعل النووي، وأطلق عليه “الأربعون السلفية.. في العقيدة والدعوة والمنهج”. ويحلو لمن رتّبوا علاقة نصية حرفية مع التراث وللماضي أن يستظهروا الأمور، لعجزهم عن الفقه، فيعمد أحدهم إلى منح نفسه كنيـة يكتبها قبل اسمه، ولا ضرر في هذا الاختيار، وأن يحشر بين اسمه واسم أبيه “بن” على غير عادة المصريين، ولا ضرر في هذا أيضا ولا ضرار. ولكن ذهنية التقليد تتعدى هذه السفاسف التي يظنها لازمة لصحة الإيمان، ناسيا أن كفار قريش لم يختلفوا فيها عن المسلمين.

هذه “الأربعون السلفية” حمل غلافها هذا الخطأ النحوي “كتبها أبي أسماء”، وتكرر الخطأ في الداخل. ما شغلني أن كتابا سجل جامعه انتهاءه منه في بلد خليجي عام 2008، وطبعه في مدينة المنصورة، كيف وصل إلى قريتنا في محافظة أخرى في عمق الدلتا؟ وماذا يفيد مسلما صلى العيد، ويستعد لذبح أضحيته، أن يقرأ حديثا عن تعذيب غير المسلمين في النار؟ فأول أحاديث هذه الأربعين يرويه أبوهريرة أن أي يهودي أو نصراني “يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار”.

تمتد هذه الروح لتشمل المسلمين، في عناوين منها “عقوبة المبتدع”، و“محاربة البدع والمبتدعة”، و“الحكم بغير ما أنزل الله”، و“عقوبة المرتد” التي يقول إنها تتراوح بين الحرق والقتل. وفي الهامش يوضح “أبوأسماء” أن هناك ردة بالشك، في محرمات “معلومة كالخمر.. والمرتد يستتاب، فإن رجع بعد ثلاثة أيام قُبل منه وإن أبى وجب قتله”. وليس في هذا القطع نشاز عما قاله ويقوله أصحاب الخطاب التكفيري من النووي وابن تيمية إلى حسن البنا وسيد قطب والشعراوي ومحمد الغزالي وأحمد كريمة والحبيب الجفري.

في هذه الأربعين تقرأ عناوين “تحريم حمل السلاح على ولاة الأمور”، و“عقد البيعة للإمام أو السلطان أو الرئيس القائم، وتحرُم منازعته ومعصيته والترهيب من نقضها”، وفيه نهي عبدالله بن عمر عن خلع يزيد بن معاوية، “فلا يخلعن أحد منكم يزيد، ولا يسرفنّ أحد منكم في هذا الأمر، فيكون الفيصل بيني وبينه”، ويستشهد بقول ابن حجر بوجوب “طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع من الخروج عليه ولو جار في حكمه”. فماذا يريد الطغاة أفضل من هذا الحلف السلفي؟

روائي مصري

9