الأديب والناقد علاوة كوسة: أنا متفائل بالنص المسرحي الجزائري

قلة هم الكتاب الذين تنفتح تجاربهم على مختلف الأجناس الأدبية، فتتفاعل تلك الأجناس وتلقي بانعكاساتها على بعضها البعض لتخلق فرادة في الرؤية والأسلوب، فنرى في الشعر روح المشهد القصصي، وفي القصة والرواية روح الشعر، ومن بين هذه التجارب تأتي تجربة الأكاديمي الجزائري علاوة كوسة الذي كان لـ”العرب” معه هذا الحوار حول تجربته ورؤاه الثقافية.
تجمع التجربة الأدبية للأكاديمي علاوة كوسة بين الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرح، بالإضافة إلى النقد والتدريس الأكاديمي في الجامعة الجزائرية، الأمر الذي يؤشر لثرائها ومحاولتها التمايز وتقديم نصوص تتماس فيها تجليات الإبداع.
من بين ما قدم كوسة: ارتعاش المرايا، تهمة المتنبي (شعر)، أين غاب القمر، هي والبحر، المقعد الحجري (قصص)، بلقيس، ريح يوسف، خطيئة مريم (رواية)، بين الجنة والجنون (مسرحية)، فستان العيد (قصص أطفال). ومن بين أعماله النقدية: أوراق نقدية في الأدب الجزائري، ديوانهن (مختارات من الشعر النسوي العربي المعاصر)، موسوعة القصة القصيرة جدا في الجزائر، الموسوعة العربية في القصة القصيرة جدا، سحر الرواية، أدبية القصة القصيرة، “الأنساق المقنعة في الشعر الشاهدي العربي”. هذا فضلا عن مشاركته في العديد من الكتب النقدية الجماعية ومشاركات دولية وعربية ووطنية في ندوات وملتقيات علمية أكاديمية.
ويبيّن كوسة أن هذا الجمع بين الأجناس الأدبية أمر مرهق، ويبدو الجمع بين الكتابة الإبداعية والعمل الأكاديمي نوعا من الحِمل الثقيل، ولكنه، بتكوينه العلمي والثقافي، وفّق بين كل هذه المجالات، بقاعدة حياتية مفادها أن كل شيء تعيشه بحب ستبدع فيه وترتاح خلاله.
البدايات في الشعر
هناك تأثير ما لتجربة علاوة كوسة الأكاديمية وتكوينه العلمي على تجربته الإبداعية في الرواية والسرد والمسرح
يقول كوسة “لقد تربيت على عشق القراءة المتنوعة والمطالعة العميقة، لكل ما استطعت إليه سبيلا من كتب الأولين بعمق أصالتها، ومصنفات الآخِرين بأفق رؤاها وإبداعها، كما أنني لا أنطلق من رؤية فكرية أو أدبية في اختيار قراءاتي، بل أحاول الاطلاع على كل أنواع الكتابات في مختلف المجالات، لأجد أن هناك جسورا ثقافية علمية وفنية يمكن أن أعبّدها بين كل هذه المجالات والفنون والزوايا، لذا انعكس كل هذا في نصوصي الأدبية واجتهاداتي النقدية، التي توزعت على أجناس وفنون أدبية شتى، وشكلت قاعدة متينة في مقارباتي النقدية”.
ويضيف “ثم إنني أحمّل نفسي المسؤولية دائما بسؤالي: هل يمكنني الادعاء بأنني أستاذ جامعي وأحمل هذا اللقب الفخم، وأنا لست أهلا لذلك علميا ومعرفيا وثقافيا؟ وعليه أشتغل دائما على تطوير نفسي وتجديد رؤاي الثقافية والعلمية، وتأهيل معارفي لمسايرة المشهد الأدبي والنقدي الراهن، ومن أجل أن أتجاوز نفسي كلما أتيحت لي الفرصة”.
ويؤكد لـ”العرب” أن الكتابة في أجناس أدبية عديدة هي مغامرة ممتعة وشائكة في الآن نفسه، تتطلب وعيا معرفيا بأدبيات كل جنس أدبي على حدة، وعلى المناورة الجمالية والتخييلية والمهارة الأسلوبية في الانتصار لكل جنس أدبي حين تقرر الكتابة فيه، واعيا بمدى اختيارك لكتابة فكرة ما برؤية ما في جنس أدبي ما دون غيره.
ويتابع “لا شك أن تكويني الأكاديمي كان له انعكاسه على الوعي بمستويات التبادل الفني والمحاورات الأجناسية المختلفة الحاصلة بين هذه الأجناس، وأحيانا ودون وعي تام تجد أنك تحسن استعارة فنيات جنس أدبي في كتابتك لجنس أدبي مختلف، فتنبسط لتلك الاستعارات الناعمة الواعية الخفية بين الأجناس جميعا، حيث يحاور الشعري السردي ويتآلف معه بمبادلات فنية راقية، ولعلك تكتب مستحضرا جماليات الأجناس الأدبية جميعها في عز قرارك الكتابة في جنس واحد، حيث تسع الرواية الأجناس الأدبية الأخرى، وتتحاور بقية الأجناس- كالشعر والقصة والمسرح- في محمية الرواية بانسياب وسلاسة أنت ككاتب من يحسن التأسيس لها”.
ويواصل قوله “من ثمة ستكتشف كم هي متكاملة متناسقة ومتحاورة الأجناس الأدبية في ما بينها. وقد تجلى ذلك في تجربتي السردية الشاعرة، والشعرية بحسها السردي، والمسرحية بمسّها الشعر- سردي، وغير ذلك، وأنا مقتنع بهذا التحاور والتداخل بين الأجناس الأدبية، وبمحو كثير من الحدود الشكلية التي تحرم الأدب وحدة أجناسية منشودة، دون أن تذوب الأجناس وتفقد هويتها”.
ويضيف كوسة “أكيد هناك تأثير ما لتجربتي الأكاديمية وتكويني العلمي على تجربتي الإبداعية في الرواية والسرد والمسرح، لكنني أحاول أن أقوض هذا التأثير حين أقرر الكتابة، لأنني أؤمن أن الكتابة موهبة ولكنها دربة في الوقت نفسه، ولا أدع الممارسات النقدية للتجربة الأدبية لغيري، تفتك مني حريتي في الكتابة الأدبية، وسيطرة الذات الناقدة على الذات الكاتبة داخلي، رغم أن تكويني الأكاديمي له الأثر المرغوب في كتاباتي الإبداعية، من حيث الرؤية التجنيسية والفنية والبنيوية والتخييلية للنصوص الأدبية التي أكتبها، ولكنني أجتهد دائما في ترك مسافة الأمان الإبداعي بيني وبيني؛ بين الباحث الناقد، وبين الكاتب، مع أن هناك مسامات بين الذاتين تتصبب ثقافة ومعرفة واشتغالا من شأنه أن يمدّ النص الأدبي بما يخدمه دون أن يستعبده”.
ويلفت إلى أنه لا يمكن نفي فضل الشعر عليه وهو أول الكائنات الروحية التي اجتاحته مبكرا في تجربته الإبداعية، وربما كان أول الهزات الروحية التي انتابته طفلا مقبلا على حياته الريفية متأملا مستمتعا بالطبيعة، ممتلئا بالوحدة في مراعي الريف وفي ضواحي قريته رمادة، حيث لم يكن يملك من لسان سوى الشعر ليؤانس وحشة الطفولة بآمالها وآلامها.
وجاءت مراهقته وطلائع الشباب مفعمة بالتعبير الكتابي الرائق والامتياز الشفوي الذي جعل أساتذته يجيزونه في الحديث والتعبير، وما كان من رسائل الزملاء في نهايات المواسم الدراسية من بوح، أهله، كما يقول، ليقتنع بأنه يمكنه أن يكتب ما يشبه قصائد الشعراء الذين نقرأ عنهم في كتب القراءة، والمطالعة، لتأتي مرحلة الجامعة وبمعهد الآداب وممنوحاته في التخصص والاحتكاك بالشعراء، وهي المرحلة التي اشتغل فيها على تأثيث نصوصه ومحاولة التمكن من البحور الخليلية، وساعده نشر كثير من نصوصه الشعرية في الصحافة الثقافية والمجلات على الثقة في أنه قادر على الادعاء بأنه شاعر ولو بعد حين، وتعزز اعتقاده بعد نشر أول مجموعة شعرية له عام 2007 “ارتعاش المرايا” وهي مزيج بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة، وبقي على عهد الشعر كاتبا وناشرا ومحسنا لتجربته، ونال العديد من الجوائز التي شجعته على كتابة الشعر، إلى أن قرر هذا العام جمع نصوصه الشعرية في ديوان موسوم بـ”تهمة المتنبي” الصادر منذ أيام.
ويتابع أن كتابه “تهمة المتنبي”، الصادر عن دار الفردوس للنشر بتونس، شهر يناير 2023، “يتضمن مجموعة من القصائد مع المزيج بين العمودي والتفعيلي، ولا أدعي فيه الإبداع الكبير، فذلك شأن النقاد والقراء والمتخصصين ممن سيقرأون الديوان مستقبلا، ولكن الذي يمكنني أن أدعيه، أن نصوص هذه المجموعة الشعرية هي تجربة روحية تعنيني، وحالة شعرية معيشة، قبل أن تكون لغة وإيقاعا، فلطالما اعترفت وآمنت بأن الشعر حالات تعاش وتجارب تعانى ولا تُفهم، لذا أشعر أن نصوصي الشعرية في ‘تهمة المتنبي‘ هي بعض من جنوني مع الآخر، وشطر من تيهي في الكون، وكثير من وعيي بالوجود، وهي محاولات اجتياح للنصوص الغائبة مع سبق الإقرار والتوحد بها”.
ويضيف “ربما كانت نصوصي ذلك الغياب الشعري البعيد للنصوص التراثية الحاضرة المتسلطة في متون ديواني الشعرية، ولكن الأرجح أن لغة هذا الديوان هي صورة طبق أصل ذاتي، وعلامة شعرية مسجلة باسمي لا تقبل التقليد، فقط لأنني كتبتها بدمي ودمعي، ومتى كانت دموعنا ودماؤنا واحدة؟ وفي كل أحوالي الشعرية وحالاتي اللغوية، فإن ‘تهمة المتنبي‘ هي تهمتي، تهمة أن تعيش ممتلئا بالذاكرة، تفيض روحك من الأحلام، وبينهما تعيش حاضرك قصيدة موغلة في النبوءات وبراءات التهم الخالدة، فلعل قارئ الـ‘تهمة‘ سيبرَأ ويُبرِئ، مادام في الحياة متسع للشعر والنبوءات”.
الأدب الجزائري
يرى كوسة أن الحديث عن الرواية الجزائرية هو حديث عن تجربة متشعبة ومسارات متنوعة، وانتقالات عميقة منذ النشأة فالتأسيس فالتجنيس والارتقاء فالعالمية، مع حفظ الريادة التاريخية لأول رواية في تاريخ هذا الجنس الأدبي وهي “الحمار الذهبي” للوكيوس أبوليوس القرن الثاني ميلاديا، ولكن الحديث عن الرواية الجزائرية الحديثة هو حديث عن الرواد، وبألسنة لغوية مختلفة، وحامل لوائهم الروائي أحمد رضا حوحو، ومن تبعه في التأسيس الجاد للرواية الجزائرية من طينة: عبدالحميد بن هدوقة، الطاهر وطار، مولود فرعون ومالك حداد، ومن تبعهم من الأجيال اللاحقة التي أوصلت الرواية الجزائرية إلى العالمية بمفهومها العميق الإيجابي الموغل في المحلية، وليس العالمية بمفهومها الإعلامي الانتشاري الساذج.
ويضيف “لذا أعدّ الرواية الجزائرية قد بلغت مراتب متقدمة من الفنية والوعي والتجريب والإبداع، وأن تصدرها للمشهد الروائي العربي ليس صدفة بقدر ما هو تثمين للاشتغال الواعي للروائيين على تأثيث نصوصهم والانفتاح على الرؤى الجديدة المختلفة للكتابة الروائية، وهو انعكاس لثقافة الروائي الجزائري المتنوعة، والاستثمار المعرفي الكبير له في كل مجالات اطلاعه”.
ويلفت إلى أنه اشتغل على القصة القصيرة الجزائرية طويلا منذ ظهورها ونشأتها الأولى إلى آخر سنواتها التجريبية الراقية، وقد ظهر هذا الجنس الأدبي أواخر العقد الثالث من القرن الماضي، متأخرا عن الرواية وعن الشعر، بحكم ظروف مختلفة، ولا ينفي أن التجربة القصصية الجزائرية قد ولدت من رحم التجربة المشرقية السباقة، تأثيرا، ومن انعكاس للقصة الغربية التي هاجرت من محاضنها بالترجمة والتعريب إلينا، ولكن ذلك لا ينفي أن القصة القصيرة الجزائرية قد استطاعت أن تستقل بفنياتها ورؤاها وخصوصياتها في العقود الأخيرة من القرن الماضي.
ويضيف “عرفت القصة الجزائرية مع القرن الجديد توهجا ومسا تجريبيا لافتا، خاصة مع الجيل الجديد من الشباب، وقد استثمرت في الأجناس الأدبية الأخرى وأفادت من عناصرها، ووظفت أساليبها كلغة الشعر ومشهدية السينما، وغيرها، ومن ذلك اشتغالها على التجريب الموضوعاتي والفني أيضا، ومثلما استقلت عن السرود الأم، فإنها كانت سببا مباشرا في توالد جنس أدبي جديد هو ‘القصة القصيرة جدا‘، وهو الجنس الأدبي المثير للجدل الأجناسي نقدا وإبداعا في العقدين الأخيرين”.
وفي ما يتعلق بالشعر يؤكد كوسة أن “للشعر الجزائري تاريخا يعود إلى القرون الهجرية الأولى، وقد صاحب التواجد العربي في الجزائر، وعايش كل مراحلها التاريخية بفن وإبداع، ولا يمكن تقييمه في حديث مختصر، ولكن الحديث يجرنا لقراءة المشهد الشعري الجزائري المعاصر، ويجعل الباحث المتابع له يحاول اختصاره في أعلامه وقضاياه وخصوصياته، والحديث أيضا عن المجايلات الشعرية الجزائرية، وكثير من المثاقفات النصية بين مختلف الأجيال بحساسياتها الفنية والمرجعية، وأعدّ المشهد الشعري الجزائري المعاصر من أرقى المشاهد الشعرية العربية، رغم أن الرواية قد استمالت إليها أسماء شعرية كثيرة، لإغراءات مختلفة، ولكن هناك أسماء شعرية جزائرية بقيت وفية للشعر وأبدعت فيه، وقائمة المبدعين فيه تطول”.
ويوضح أن المسرح عريق في الجزائر نصا وعرضا، وإن كانت أجواؤه الأولى مشوبة بالتوجيه الكولونيالي والاستغلال الاستعماري له، ولكن سرعان ما استقل نصا وعرضا ورؤية، اشتغالا على تكوين الذات الكاتبة المسرحية بوعي وعمق ورؤيا، متابعا “لعلي أتفاءل بالنص المسرحي الجزائري في العقدين الأخيرين أكثر من تفاؤلي بالنصوص المختلفة من أجناس أدبية أخرى، خاصة وأنه نص أوجد لنفسه مكانا في المشهد العربي، وكان ردا صريحا عمليا على كل من تساءل عن غياب النص المسرحي الجزائري، وعن جدوى الاشتغال المرهق على الاقتباس رغم ما تعج به الساحة المسرحية الجزائرية من أقلام جادة مخلصة للمسرح”.
ويختم كوسة مؤكدا أن الحراك الثقافي في الجزائر لم ينبع من فراغ، ولم يتأسس إلا على حراك فكري وإنساني ومعرفي وعلمي لدى المثقف الجزائري، ولا شك في أن سياسة الدولة الجزائرية في تشجيع الثقافة كان لها الانعكاس الكبير على هذا الحراك، من خلال الدوائر الرسمية التي جعلت من الثقافة ركيزة لحياة المجتمع ومركزا لا هامشا، بشعار واع وهو “الثقافة للجميع”، بتشجيع النشر وتمويل المهرجانات الثقافية وتخصيص جوائز في مختلف المسابقات الثقافية، وهناك دور لا يمكن إغفاله وهو دور الجمعيات والمنتديات الثقافية التي شكلت كل هذا الزخم الثقافي الذي جاء ليعطي صورة مشرقة عن وطن مختلف الثقافات والتقاليد والأقلام المبدعة في شتى مناحي الآداب والفنون اسمه الجزائر.