الأدب غير المؤدب

تباينت المواقف وردود الفعل حول اتهامات سعادة عربان للأديب الفرانكو – جزائري كمال داود، بسرقة قصتها الشخصية وتحويلها إلى رواية حازت على الطبعة الأخيرة من جائزة الغونكور العالمية، بين متعاطف معها داع إلى جلد الرجل وسحب الجائزة منه، وبين متضامن معه لأنه مارس حقه الإبداعي.
والأكيد أن القضاء الجزائري أو الفرنسي سيجد نفسه في “حيص بيص”، إذا عرضت القضية أمامه، بسبب التداخل الحاصل بين الموقفين، ولصعوبة التمييز بين ما هو حرية شخصية وقرار ذاتي، وبين ما هو حرية إبداعية وحق للكاتب للخوض فيه.
سعادة عربان عرضت قصتها للرأي العام الداخلي الخارجي، وقدمت سرديتها التي تدمي القلوب، فقد فقدت كل أفراد عائلتها مرة واحدة، على يد جماعة إرهابية خلال العشرية الدموية، ولم تنفذ إلا هي برأسها، ولم تجد وهي ابنة الخمس سنوات حينها إلا سيدة من وهران تتبناها، ثم تتعرض للاغتصاب في سن السادسة عشرة، وتحاول إجهاض جنينها، إلى أن تزوجت وصارت ربة بيت، وتعرفت على كمال داود وزوجته الطبيبة النفسية.
وعلى هذا النحو والتفاصيل جاءت رواية “حوريات” للكاتب والإعلامي الفرانكو – جزائري كمال داود، المتوج بجائزة الغونكور، وحتى الإهداء حمل إيحاء للمرأة، وبين المأساة الإنسانية لسعادة وصناعة المجد الأدبي لكمال في عاصمة الجن والملائكة تتداخل الحرية الإبداعية والحرية الشخصية، إلى أن صار الأدب غير مؤدب.
وبين المسؤولية الأخلاقية في احترام خصوصيات الآخرين، وبين شغف ترجمة الأحداث في أعمال أدبية ناجحة، استلت خناجر الفعل ورد الفعل بين حشود أيديولوجية متناقضة، فالبعض كان ينتظر سقوط خصم انقلب على ذاته ولمع اسمه في باريس من أجل تصفية الحساب معه، والبعض حوّل قضية سعادة عربان، إلى مشجب لتعليق بكائياته على انتهاك الأخلاق والخصوصيات الشخصية.
لن يكون كمال داود، الأول ولا الأخير، ولن تكون “حوريات” لا الأولى ولا الأخيرة، في تاريخ مثل هذه الشبهات التي حامت أو ثبتت في حق كتاب وأدباء وأعمال إبداعية مختلفة، ولذلك فإن الضحية دائما هي شرف المهنة وأخلاقياتها، خاصة وأن البعض من محترفي هذه المهنة يعتقدون أنفسهم كائنات قادمة من عالم آخر إلى عالم البشر، ومن حقها كل شيء وليس من حق الآخرين أيّ شيء.
وتحت مسمّى الحرية الإبداعية والفكرية تم انتهاك خصوصيات وأعراض أناس آخرين، وتحولت حياتهم إلى مادة دسمة تستهلك في مختلف الموائد، وباسم العرض والشرف يجري ابتزاز تجارب النجاح، من أجل إسقاطها أو بلوغ غاية معينة، وفي المحصلة هو غياب القناعة والأدب (الأخلاق)، وليس الأدب (النثر والشعر) عن الحياة العامة.
هناك العديد من الأمثلة والتجارب في الجزائر وفي غيرها، عن السرقات الأدبية والفكرية، وليست “حوريات” أو “سعادة عربان” هي الأولى ولن تكون الأخيرة، لأن نزعة الاستغلال والابتزاز تفوق نوازع الصفاء والشرف المهني، عند البسطاء كما عند الكبار، كما حدث مع كمال داود وسعادة غربان.
من يعتقد أن المثاليات تنبت وتنمو في عوالم التفكير والتأليف، هو من تكون الصدمة شديدة عليه، ومن يعرف أن تلك العوالم لا تختلف وسخا عن وسخ عوالم الأحياء والأسواق الشعبية، لا تفاجئه تطورات رواية “حوريات” ولا الجوائز الأدبية، ولا طموح الانتهازيين، لأن الصفاء والشرف قيمتان لا مكان ولا زمان لهما، فقد تكونان عند أبسط الناس في أبعد مكان، وليس عند كبار القوم في بروجهم العالية.