الأدب العربي في تشاد نصوص لا تلقى اهتماما من العرب

طاهر النور: لدينا مشهدان ثقافيان؛ فرنكفوني مبجل وعربي متروك.
الخميس 2022/08/25
لكل امرئ طريقته الخاصة في فهم عالمنا

يجهل العرب الكثير عن الثقافة العربية في تشاد، البلد الذي تتمازج فيه الثقافات وتلتقي فيه الثقافة العربية بنظيرتها الأفريقية، ولكن يواجه من ينتجون أعمالهم الأدبية بالعربية تجاهلا من الساحة الثقافية العربية التي لا تصل إليهم، وهو ما يدعو إلى مراجعة شاملة. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الروائي والكاتب التشادي طاهر النور حول تجربته وواقع الثقافة العربية في بلاده.

يتمتع الكاتب الروائي التشادي طاهر النور برؤية عميقة لجغرافيا بلاده ومحيطها الأفريقي والعربي، وللحضارات والثقافات التي تعتمل في مجتمعها وتأثيراتها المختلفة على أوجه الحياة. وفي مجمل أعماله، ما نشر منها وما ينتظر الطبع، يتغلغل في نسيج هذا المجتمع التشادي ليقبض على عوالمه الإنسانية والجمالية والفنية، وهو في ذلك يرتكز على تكوين معرفي قوي بالآداب العربية قديمها وحديثها، الأمر الذي ينعكس على التشكيلات الأسلوبية والتقنيات الفنية.

النور الذي ولد في مارس 1990، في البطحاء الغربية في تشاد، درس القانون وحصل على دبلومه في القضاء، وأصدر روايته الأولى “رماد الجذور” والثانية “سيمفونية الجنوب” في 2019، تحكي الأولى عن الثورة والثورة المضادة في تشاد، وينصب تركيزها على حرب 2 فبراير 2008، حيث اجتاح الثوار العاصمة وسيطروا عليها مدة ثلاثة أيام فقط، ثم طردوا من قبل الطيران الفرنسي. أما الثانية فتتحدث عما بعد الحرب، حيث يبحث أبطالها عن مدن السلام، عن قرى هادئة يموتون فيها بلا ضجيج، إضافة إلى ذلك هي رواية الطفولة، فبطلتها الرئيسية طفلة.

معالجة القضايا

عكس الشعر والقصة اللذين يعتمدان على الإيجاز والتكثيف، الرواية تتطلب نفسا سرديا طويلا ومدارك خيالية أوسع

صدرت للنور أخيرا روايته الثالثة “مزرعة الأسلاك الشائكة”، وتدور أحداثها حول بطلها جارالله الذي ينشأ في مزرعة الأسلاك الشائكة بلا أب. وما إن يكبر ويستوي عوده ويخالط الناس حتى يدرك حقيقة أنه “فرخ”، حيث لا توجد أي إمكانية للعثور على هذا الأب الشرعي. لكنه لم يول هذا الأمر اهتماما بالغا بل يعيش حياته القصيرة طولا وعرضا. ويتعامل مع الأمر بنوع من العبث، فيشتم من ينعتوه بالفرخ، أو يسخر منهم أو يستفزهم حين يتاح له ذلك.

وكانت حياة بطل الرواية هذه تتقاطع مع حياة أخيه من الأم آدم، الذي يكبره بعقد كامل، وله أب -وإن كان ميتا- فهو حقيقي وله عائلة ينتمي إليها. وكان غالبا ما يشعر بالدفء ضمن هذه العائلة الصغيرة التي تحتضنه وتعامله مثل ابن أي عائلة طبيعية رغم الفقر والحرمان الذي تعيشه. وكانت والدته تريد أن يصير كأخيه، يواصل تعليمه ويحصل على الشهادات العليا، لعل الواقع يتغير، ولعل وجه المستقبل يصبح أرحب وأكثر سخاء. لكنه اختار منحى آخر لما بلغ سن المراهقة، إذ صار ثوريا ومتمردا ومناكفا؛ يغضب ويكسر ويؤلب الحشود.

وينتظر أن تتوالى إصدارات النور ومنها تحت الطبع “حكاية الأرض للسماء، أيام في لبنان” أدب رحلات، “قودالا” رواية، “سحر التسكع” يوميات، “عزف بلا معنى” مجموعة قصصية، “بلاد الرقص أوطاني” مقالات ساخرة. وفي هذا الحوار معه نحاول إلقاء الضوء على أبرز ما شكل عوالم إبداعه.

يقول النور “في مطلع شبابي قرضت الشعر وتعاطيت الأدب بشغف، الأمر الذي دفعني إلى المزيد من الاطلاع على عوالم غرائبية ما كنت أتوقع وجودها لو لم يقدني فضولي إلى قراءة الأدب، لاسيما أصول الأدب العربي التي تقوم، كما يقول ابن خلدون، عـلى أربعة مرتكزات: البيان والتبيين وأدب الكاتب، والكامل، والأمالي، فضلا عن السرديات العظيمة العديدة”.

ويضيف “لكن، إذا أردنا الصراحة، لم يجئ اهتمامي بالرواية اعتباطا، فقد طرقت بابها بوعي شبه تام، وبشكل تراكمي، بدءا من الشعر إلى المقال، وانتهاء بالقصة القصيرة التي كنت أكتبها خلال سنوات دراستي الجامعية. وكان لهذا كله تأثير كبير على انطلاقتي الروائية لاحقا. وفي لحظة ما خاطبت نفسي -على غرار ما كنت أفعل في تلك الأيام الخوالي التي أتعاطى فيها المقالات الساخرة- قائلا: حسنا أيها الولد الشقي، يمكنك فعلها. وهذا ما حدث: لقد فعلتها”.

ويتابع “تدور عجلة هذه السردية ‘مزرعة الأسلاك الشائكة’ في صميم الواقع الاجتماعي بكل ما فيه من تعقيدات. فالعقل الجمعي لا يزال يحمّل مثل هذه الشخصيات الهشة مسؤولية وجودية، هي غير قادرة على تفاديها، ولا يمكنها رفضها أو اجتثاثها من جذورها. فما ذنب الطفل الذي يترعرع في هذا الوجود إذا كان بلا أب شرعي، أو حتى بلا أبوين، كابن شارع؟ لماذا يحمّلونه وزر رجل وضع بذرته في رحم أمه ورحل إلى غير رجعة؟ هل عليه أن يتعايش مع مجتمع ينعته على الدوام بتلك التوصيفات المشينة، التي تهد روحه، وتقوض آماله كإنسان يود الحياة مثل سائر الخلق؟ وكيف سيعيش الإنسان المستضعف إذا كان المجتمع يرفض تواجده وينفض عنه صفة الإنسانية، ويتصرف نحوه بهذا القدر من العنف واللامبالاة والازدراء وعدم القبول، في حين أنه لم يخطر بباله قط أن بوسع إنسان أن يكون بهذه البهيمية المائعة، المتقلبة، والانمساخية المترتبة على إقصاء الآخر”.

ويبين النور “طبعا جالت مثل هذه الأسئلة وغيرها في ذهني، حين فكرت في معالجة المسألة في رواية أردتها أن تكون نوفيلا، أنتهي منها سريعا ومن ثم أعود إلى الكتاب الذي أهتم به في الأصل. نفس الأسئلة دارت آلاف المرات في ذهن جارالله (بطل الرواية) وهو يبحث عن ذات، عن هوية، وسط مجتمع يرفضه، ويظل ينفر من المدرسة، ومن الخلوة، مفضلا عليها أخيرا العمل في ‘الميكانيك’ ومخالطة الناس الأكثر بساطة، الذين يتقبلونه ويقدرونه ككائن بشري مستقل ومكتمل بحد ذاته، فيعيش ويتأقلم معهم ويدافع عن قضاياهم بكل بسالة، بهموم جديدة آخذة في التوسع، بدون توقف”.

لم يعد بطل الرواية مضطرا إلى مخالطة من ينبذونه، وبات بإمكانه العمل خلال النهار دون أدنى قسط من الراحة، حيث بإمكانه أن يشاركهم أفراحهم وأتراحهم والصور والأصوات والموسيقى والروائح والمشاريع الصغيرة والذكريات. وهو ما يحقق له الرضا الذاتي، الذي بحث عنه طويلا بعزيمة لا تنكسر، ولا تنطوي على أي نوع من الاستسلام.

وحول ما إذا كانت هناك علاقة تربط بين روايات “رماد الجذور” و”سيمفونية الجنوب” و”مزرعة الأسلاك الشائكة” خاصة على مستوى معالجة القضايا الاجتماعية والإنسانية، يقول النور “لعل الرابط بين هذه الروايات قوي للغاية، حيث أن الرواية الأولى والثانية تطرحان قضايا وثيقة الصلة بالتاريخ السياسي والاجتماعي لبلادنا، بينما ركزت ‘مزرعة الأسلاك الشائكة’ على قضية اجتماعية بحتة. لقد أردت هذا منذ البداية، وكان واضحا أن بمقدوري المضي قدما في هذا المنحى، وأن بمستطاعي معالجة بعض القضايا بطريقتي الخاصة، فلكل امرئ طريقته الخاصة في فهم عالمنا الطائش الذي يزداد تعقيدا وتضخما يوما إثر آخر. وهكذا كل سردية تالية أكتبها، تؤكد لي صواب خياراتي، وأن محاولة فهمي للعالم ليست عبثا على الدوام، رغم أنني لا أحب تكرار نفسي في كل مرة، وأنه من الأفضل أن أجرب وأن أمزج ألوانا قصصية جديدة، لا عهد لها بما سبق أن طرحته في بداية مسيرتي”.

الفرنكفونية والعربية

باستثناء المركز الثقافي الليبي الذي أغلق إبان الربيع العربي لا توجد مؤسسات عربية تعنى بثقافة لغة الضاد في تشاد

عن مدى تأثر رؤيته وتجربته الروائية وتشكيل الشخصيات والمعالجة بدراسته للقانون، يشير النور “لا أعلم ما إن كان للتخصص تأثير سينعكس لا محالة على الأعمال السردية، ولكن مع أنني لم أكتب رواية بوليسية أو رواية تحرٍّ، نظرا إلى عملي في القضاء، إلا أن بعض فصول ‘سيمفونية الجنوب’ تنبئ بهذا التأثير. وكذلك يوجد نفس هذا الحس البوليسي الضئيل في نهاية ‘مزرعة الأسلاك الشائكة’. ولكني لا أميل كثيرا إلى تجربة هذا النوع من الروايات، وأعتقد أن لدي ما هو أفضل من كتابة ذات تعقيدات بوليسية. ففي النهاية يخضع الأمر للمزاج وللميول الشخصية، وأن لا التخصص ولا الاهتمامات العملية يمكن أن يغيرا القناعات الخاصة. وربما أفشل فشلا ذريعا إن أنا اتجهت إلى نوع آخر لا أحبذه، أو أستحسن أن يأتي في سياق عام، يرتبط بمنحى الحكاية التي فرضت وجودها بقوة الفكرة ذاتها”.

ويتابع “أظن أن عملي في الصحافة والكتابة الصُّحفية منحني النفس الروائي الطويل. فعلى عكس الشعر والقصة اللذين يعتمدان على الإيجاز والتكثيف، تتطلب الرواية نفسا سرديا طويلا ومدارك خيالية أوسع نطاقا وأكثر رحابة. لكن بشرط أن يتخلص الروائي من لغة الصحافة، ويرتدي جبة السرد الروائي الذي يتميز بلغة نادرا ما تتجاور مع لغة الصحافة، التي لا يكون فيها كل شيء محض إيقاع يتسارع إلى أن يصل الذروة القصوى، كما هو الحال في الرواية؛ حيث من يكتب باحترافية، ومن يسيطر على إيقاع السرد، يسيطر على ضربات قلوب القراء، الذين سيزدادون انبهارا، وسيتمنون ألا تنتهي تلك الفراديس”.

طاهر النور: لا توجد حركة نقدية عربية تتابع الإبداع التشادي عامة

ويرى النور أن هناك مشهدين ثقافيين في تشاد؛ مشهد ثقافي فرنكفوني، ومشهد ثقافي درج على تسميته بـ”العربفوني” نسبة إلى دارس العربية. الأول مدعوم من الدولة ومؤسساتها ومنظماتها وجوائزها الفرنكفونية، والثاني يسير وئيدا، متخبطا، ينتظر الصدف الجميلة والأقدار الرحيمة.

أما بخصوص التواصل العربي فيقر بأن “التواصل ضعيف جدا، وعلى صعيد فردي، واجتهادات ذاتية، لذلك لم نر أي مؤسسات عربية كبيرة تعنى بالثقافة في الداخل، اللهم إلا المركز الثقافي الليبي الذي أغلق إبان الربيع العربي، والنادي الثقافي السوداني الذي توارى هو الآخر، وغير هذا لا توجد مكتبة تمثل دولة عربية أو مركز ثقافي عربي. أعتقد أن الأمر يعود إلى سببين، السبب الأول هو وجود الدولة في وسط فرنكفوني يوجه أنظاره وآماله وسياساته نحو الغرب. والسبب الثاني هو الغياب العربي على نطاق التقارب الثقافي، مكتفيا بالعلاقات الدبلوماسية وبعض الجوانب الإنسانية”.

ويلفت إلى أنه لا توجد حركة نقدية عربية تتابع الإبداع التشادي عامة، أو على الأقل لا وجود لها على مستوى الرواية، بالرغم من أن المدارس النقدية منتشرة في كل العالم، ووجودها شائع، وتتطور مع تطور تقنيات الرواية ومع ازدهار العصر ومتطلباته. ولا بد أن لتأخير ظهور الرواية العربية هنا بعض الأثر، وإلا كيف يمكن أن تواكب الحركة النقدية الثيمات الجديدة للحركة السردية؟

ويؤكد النور أن عمر الرواية العربية في بلادنا قصير جدا. كما أنه يسير ببطء سلحفاة، وكان لهذا تأثير على تطوره، كما لو كنا ككتاب نجد صعوبة في فهم دواعي المجازفة والتجريب، وبالتالي نجد أنفسنا غير قادرين على الاستمرار أو اختبار قدراتنا السردية، خشية ألا يسير كل شيء على ما يرام. فما النفع من استثمار قدر كبير من الطاقات من أجل مسير أدبي غير مضمون النتائج أو ربما غير مضمون العواقب. لكنه، رغم كل العوائق والمثبطات، بدأ في السنوات الأخيرة ينفض عن نفسه غبار ذلك البطء. واضح أيضا، إذا تحدثنا عن الخصائص، أن بيئة أفريقيا جنوب الصحراء تبرز فيه بوضوح، من حيث الطبيعة والإنسان والعادات والتقاليد، وكل ذلك الحشد والزخم الذي تتميز به أفريقيا بناسها ومشاهد حيواناتها التي تتصارع وتتكاثر؛ أفريقيا الأشد غرابة، التي تشبه جمرة متوهجة لا تكاد تنطفئ في ليل أو نهار.

14