الأدباء يطالبون السينما بالوفاء للروايات التي تقتبسها

عملية الاقتباس من التاريخ أو التراث أو الوقائع التاريخية كانت منبع الإبداع القصصي والروائي والمسرحي سواء في الغرب أو عند العرب، ومع ظهور السينما شكلت ظاهرة فيها اعتبرها النقاد لمدة طويلة ظاهرة أدبية، غير أن رومان جاكبسون وجهها منحى جديدا، بحيث صنفها ضمن الترجمة، وسماها “الترجمة بين سيميائية”.
يحاول الناقد الجزائري بغداد أحمد بلية في كتابه الذي يحمل مصطلح جاكبسون “الترجمة بين سيميائية.. الرواية والفيلم”، تتبع مجمل الاقتباسات أو الترجمات منذ ظهور السينما إلى الوقت الحالي، في عرض تاريخي مجمل رمى من خلاله إلى الاستدلال على وجود فعلي للترجمة بين سيميائية بين الفنون المختلفة وبخاصة المسرح والأدب والسينما.
كما يرصد الكتاب مفهوم الترجمة بين سيميائية وخلفياتها النظرية، وفي مجال التطبيق ذهب إلى التركيز على السينما الجزائرية وعلاقتها بالأدب والرواية من خلال ثلاثة أعمال فريدة هي “الأفيون والعصا” لمولود معمري (الفيلم الذي أخرجه أحمد راشدي)، و”ريح الجنوب” لعبدالحميد بن هدوقة (إخراج محمد سليم رياض)، و”الدار الكبيرة” و”الحريق” لمحمد ديب (مسلسل من إخراج مصطفى ربيع).
رابط بين الفنون

بغداد أحمد بلية: أهم رابط يجمع بين عالم الفنون الدرامية والرواية هو عنصر السرد والقص
يرى بلية في مقدمة كتابه، الصادر عن دار الغرب للنشر والتوزيع، أن الفنون المسرحية منذ أزمنة سحيقة سارت في تطور متواز مع الأدب، وكان اليونانيون من السباقين إلى ترقية العروض المسرحية، إلى أن أطلت الحضارة الغربية الحديثة فأعطت المسرح دوره الهام في التواصل مع الجماهير. وتطور فن القصص الأدبي بدوره إلى أن بلغ الاكتمال مع مطلع القرن التاسع عشر إلى غاية القرن العشرين، بيد أن نهاية القرن التاسع عشر عرفت حدثا متميزا كان له كبير الأثر في تطور الفنون المختلفة وكذلك ترابطها، بحيث جمع بين المسرح والرواية في استعراض جديد لم تعرف البشرية له نظيرا.
لقد كان ميلاد السينماتوغراف على يد الإخوة لوميار حدثا تاريخيا، سعى مخترعوه لرصد دقائق من حياة الإنسان والمجتمعات وعرضها على عدد كبير من المشاهدين، تخليدا للحظة من تاريخ الإنسان، بيد أن جورج ملياس الفرنسي أعجب بالاختراع الجديد، فدفعه فضوله إلى خوض بعض التجارب لمزج عدة صور مع بعضها، فتمكن من اكتشاف “الخدع السينمائية”، فكان ذلك ميلادا جديدا للسينماتوغراف، كما صور ملياس عادة قصصا عالمية وتراثية، فكان التحول التام للسينماتوغراف من التصوير الوثائقي إلى عرض القصص الخيالية.
ويضيف الناقد “بالرغم من تعثر السينماتوغراف في تصوير القصص المبتذلة نتيجة تزايد طلب الجماهير لمشاهدة الأفلام المصورة، إلا أن العاملين في الحقل السينماتوغرافي والنقاد أدركوا أن الفن الجديد لا يمكنه الاستغناء عن المسرح، ويمكن الاستفادة من الأدب الروائي، لهذا استعان أصحاب الأستوديوهات بالممثلين والمخرجين المسرحيين، كما اقتبسوا روايات بعض الكتاب المشهورين آنذاك، وبهذا جمع الفن الجديد بين العرض المسرحي والسرد الروائي نتج عنه عمل فني استعراضي جديد هو السينما”.
ويلفت بلية إلى أن أهم رابط يجمع بين عالم الفنون الدرامية والرواية هو عنصر السرد والقص، ولهذا يسعى العاملون في الحقل السينمائي لتحويل الأعمال الأدبية إلى أفلام، وأحيانا إلى مسلسلات تلفزيونية وهذا لتداخل الحقلين، بل إن كثيرا من المخرجين السينمائيين هم مخرجون في التلفزيون. وحين يكون العمل الروائي من نفس جنسية العمل السينمائي تطرح مشكلة الترجمة ومدى توافقها مع الأصل، أما حين يكون العمل من لغة وثقافة تختلف عن ثقافة ولغة السينمائي فعادة ما يلجأ كتاب السيناريو إلى الاقتباس من الأعمال الأدبية العالمية ويحولونها إلى عمل محلي، تفاديا لتغريب المشاهد، ورجاء تفاعله مع العمل الجديد، وفي بعض الأحيان تختلف ملامح الأصل، ويبدو العمل الدرامي جديدا مبدعا.
◙ إمكانيات السينما الكبيرة سمحت بنقل مضامين الروايات عن طريق الصورة ما أعطى أهمية كبيرة للترجمة بين سيميائية
وهذا ما يدفع بالكثير من الروائيين إلى رفض العمل السينمائي، والسعي لإبعاده عن المؤلف الأصلي، أو على الأقل يبدي الأدباء عدم رضاهم عن الطريقة التي يتم بها تحويل عملهم الروائي أو القصصي إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني. وهذا ما حدث للكاتب الدرامي برتولد بريخت حين حولت مسرحيته “أوبرا 4 سنتات” إلى فيلم سينمائي. فبالرغم من أن بريخت اقتبس نص المسرحية من “أوبرا المستجدين” للكاتب الإنجليزي جون غراي 1728، وكان اقتباسه حرا لا يتقيد بالأصل، إلا أنه أصيب بالخيبة حين عرض فيلم ج. بابست 1931، مما دفعه إلى تقديم المنتج إلى العدالة في قضية خاسرة.
ويتابع أن الروائي إرنست هيمنغواي الذي اقتبست جل أعماله الروائية إلى أفلام سينمائية منها “لمن تقرع الأجراس” و”الشيخ والبحر” و”وداعا للسلاح” و”ثلوج كيليمنجارو” و”الشمس تشرق ثانية”، كان يصاب كل مرة يعرض فيها فيلم مقتبس من إحدى رواياته بخيبة أمل شديدة. فيغادر قاعة العرض بعد دقائق معدودة. والحقيقة أن الرواية الأدبية تختلف جوهريا عن العمل السينمائي، فالأولى تعتمد على اللغة والأسلوب أما الثانية فتحول اللغة البشرية برموزها المكتوبة إلى نظام جديد تكون فيه الصورة هي الوسيلة الناقلة للرموز اللغوية، وفي هذا النقل والتحويل يضطر كاتب السيناريو إلى الحذف أو الإبدال بما يوافق الطرح السينمائي للحدث.
هذا الأمر ينظر إليه الأدباء بارتياب، إذ يعد في نظرهم خيانة للنص الأصل، ولعل أكثر الأدباء ينظرون إلى الظاهرة على أنها ترجمة، ولذا يطرحون قضية الخيانة في النقل، مثلما طرحت الفكرة في الترجمة، واختلف في أن يكون الناقل وفيا للنص الأصل حرفيا أم يكون الوفاء للمضمون؟ وهذا ما دفع ببعض الروائيين إلى رفض الاقتباس كليا وبعضهم تعامل مع الظاهرة بنوع من الحذر الشديد والبعض الآخر قبله على أساس أنه نمط إبداعي جديد يختلف عن النصوص الأدبية، ولكنه مرتبط بها، بحيث يبقى الأدب دائما الخزان الأساس للأعمال السينمائية والتلفزيونية وكذلك المسرحية.
وكان الروائي نجيب محفوظ من الذين تفطنوا إلى طبيعة العمل السينمائي والتلفزيوني، وتباينه مع العمل الأدبي، ولعل اشتغال نجيب محفوظ مدة طويلة مع السينمائيين، وكتابته للعديد من السيناريوهات جعله يميز بين العمل الفني السينمائي وطبيعته وبين العمل الأدبي وخصوصياته.
ترجمة الروايات

◙ الكتاب يرصد مفهوم الترجمة بين سيميائية وخلفياتها النظرية
يبين بلية أن العمل الأدبي الوحيد الذي فرض على مقتبسيه المحافظة على طبيعة النص الأصلي، هو قصص ألف ليلة وليلة، بحيث اهتم بها رجال الفن السابع، ولكن مع الحفاظ على تاريخيتها وطبيعة العصر الذي ألفت فيه، وهكذا قدم راؤول ولش “لص بغداد” مع دوغلاس فربانكس الممثل المشهور سنة 1924، وتبعته العشرات من الاقتباسات أشهرها “علي بابا” (مع الممثل الفرنسي فرننديل) 1955. وفي مصر عرضت سلسلة من أفلام دنانير المقتبسة من حكايات ألف ليلة وليلة، من إخراج أحمد بدرخان 1940. وهكذا يستفيد الأدب بنفس المقدار الذي تستفيد منه السينما، إذ يشخص العمل ممثلون مشهورون يستقطبون الجماهير ويجلبونهم إلى قاعات السينما أو يدفعونهم إلى اقتناء الأفلام المسجلة، وفي هذا دعاية للرواية المكتوبة، قد يثير فضول المشاهد ويدفعه إلى الاطلاع على النص الأصلي المكتوب، أو على الأقل تكون المشاهدة قراءة أولية للنص الروائي.
ويؤكد أن السيميائيات تمنح الفنون الاستعراضية بأدواتها الإجرائية ورؤيتها النقدية الوسيلة الأكثر قدرة على فهم كنه الصورة، وحقيقة الحركات والإشارات والملامح. لقد ظلت السيميائيات لمدة طويلة حكرا على اللسانيات والأدب، ولكن جهود بعض السيميائيين أمثال رولان بارث وأمبرتو إيكو جعلت الدراسات السيميائية تتسع لتضم كافة الأنساق السيميائية المعتمدة على العلامة سواء اللغوية أو الأيقونية.
كما لاحظ الباحثون أن العالم أصبح فلكا سيميائيا “سميوسفير” يحوي العديد من الأنظمة السيميائية المتداخلة، والمتفاعلة في ما بينها، بحيث تفرض للانتقال من نظام سيميائي إلى آخر نوعا من الترجمة سماها رومان جاكبسون “الترجمة بين سيميائية”. وإن التداخل بين اللغة الطبيعية البشرية والصورة المتحركة والثابتة، وبين اللغة والمسرح واللغة والسلوكيات العامة وأنساق الموضات أو سلوك الأكل أو الآداب العامة، فرض اتساع مجال الترجمة لتشمل أنظمة متعددة ولعل المظهر البارز الذي تجلت فيه الترجمة بين سيميائية هو الاقتباس، فمنذ بداية ظهور السينما العالمية اتجه العاملون في حقل السينماتوغراف إلى الأدب لينهلوا من معينه.
ويشير إلى أنه مع تطور الدراسات في المجال السيميائي والترجمي، بات محتما على الباحثين، وصف وتحديد القوانين المتحكمة في عملية الترجمة بين سيميائية، نظرا إلى اختلاف طبيعة النصين المنقول من والمنقول إليه. فالنصوص الأدبية الروائية والقصصية لها خصائصها التي تميزها عن الكتابة المسرحية والسينمائية والتلفزيونية، فإذا كانت الدراسات السيميائية الحديثة تنظر إلى الاقتباس على أنه نوع من الترجمة، فيتحتم البحث عن قوانين الاقتباس ضمن علم عام للترجمة.
◙ الروائي نجيب محفوظ من الذين تفطنوا إلى طبيعة العمل السينمائي والتلفزيوني، وتباينه مع العمل الأدبي
ويوضح بلية في ما يتعلق بعلاقة الرواية الجزائرية بالسينما والتلفزيون، يقول “يعتبر مولود معمري ومحمد ديب من رواد الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية، أما عبدالحميد بن هدوقة فقد عده نقاد الأدب أحد المبدعين المتميزين في الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية. لقد سادت الكتابة باللغة الفرنسية في مرحلة الاستعمار الفرنسي للجزائر، واستمرت إلى يومنا هذا، بينما لم تعرف الرواية العربية طريقها عند الكتاب الجزائريين إلا مع نهاية الأربعينات من القرن الماضي.
ويبين أنه لم تعرف الرواية الجزائرية النضج الفني إلا في السبعينات من نفس القرن. وسواء كتبت الإبداعات باللغة الفرنسية أو باللغة العربية، فإنها تعيش أزمة مقروئية حادة، فنشر رواية جديدة لا يشكل حدثا أدبيا، ولا يثير نقاشا، مما يجعل الإبداعات عرضة للتهميش والنسيان، وبالرغم من اهتمام الأكاديميين بالإبداعات الجديدة إلا أنه نقد لا يصل إلى القراء بدوره.
ويرى أنه في ظل هذا الوضع الغامض، اهتدى بعض الفنانين من المسرح أو السينما والتلفزيون إلى فكرة نقل الأعمال الأدبية إلى عروض فيلمية قد تساعد الجمهور على التعرف على إبداعات الروائيين الجزائريين وهكذا كتاب، وأخرج أحمد راشدي فيلم “الأفيون والعصا” المقتبس من رواية لمحمد ديب. فالكاتب والمخرج أحمد راشدي ترجم العمل الأصلي من اللغة الفرنسية إلى العربية الدارجة، ثم ترجمه من عمل روائي إلى عمل سينمائي، وبهذا تمكن من ترجمته مرتين.
كذلك فعل مصطفى بديع مع مسلسله التلفزيوني “الحريق” المقتبس من روايتين لمحمد ديب هما “الدار الكبيرة ” و”الحريق” المكتوبتين باللغة الفرنسية، فقد ترجم العمل من اللغة الفرنسية إلى العربية، ثم من رواية أدبية إلى مسلسل تلفزيوني. في حين لم يجد محمد سليم رياض صعوبة في ترجمة رواية “ريح الجنوب” إلى اللغة العربية الدارجة، بعدما كانت مكتوبة باللغة العربية الفصحى، نظرا إلى تقارب اللغتين، ولكنه ترجم العمل الأدبي إلى عمل سينمائي يخالفه في الكتابة والعرض.
السينمائيون يسعون لتحويل الأعمال الأدبية إلى أفلام وأحيانا إلى مسلسلات تلفزيونية لتداخل الحقلين
ويخلص بلية إلى أن السينما هي الجامعة بين الأدب والمسرح والعرض السينمائي في بداياتها، وأنه نظرا إلى أهمية العرض السينمائي، وما يتيحه للأدباء ورجال المسرح من إمكانيات جديدة ورؤية جديدة للعالم، فقد جرب العديد من الأدباء والمسرحيين تجربة الكتابة والإخراج السينمائي. لقد سمحت إمكانيات السينما الكبيرة بنقل مضامين الروايات عن طريق الصورة ولهذا يجب إعطاء أهمية كبيرة للترجمة بين سيميائية. كما يشدد على أن قصة النبي يوسف عليه السلام تشكل نموذجا واضحا لتجسيد أنواع الترجمة كما ذكرها رومان جاكبسون.
وتعد المحاولات التي قام بها السينمائيون الجزائريون لترجمة بعض الأعمال الأدبية إلى المسرح والسينما والتلفزيون جديرة باهتمام الباحثين، ولعل أحسن ترجمة هي التي قام بها المخرج مصطفى بديع مع مسلسل الحريق المترجم عن روايتي محمد ديب “الدار الكبيرة” و”الحريق”، فقد استطاع بذكاء نقل مضامين الرواية بوفاء تام. لقد تمكن بديع من حل مشكلة السرد والوصف في الرواية، بإدخال الراوي كشخصية مستقلة عن العرض، من خلاله تمكن المشاهد من الولوج إلى أعماق شخصية الطفل عمر، فالصورة وحدها قادرة على التعبير عن الوصف العميق.