الأدباء والعلماء الأكثر دفاعا عنه.. الخيال يشارك في تكوين تجربتنا للعالم

قدرة البشر على التخيل غير محدودة، إذ من خلال الخيال يمكن التفاعل عقليا مع الأفكار دون التقيد بقيود الواقع. كما أن ممارسة الخيال تسمح بالهروب من حياتنا العادية دون أن نغادرها. يمكننا الخيال من النظر إلى الواقع بشكل جديد، كما يمكننا تجاوز القيود الراهنة وتغيير الأحوال القائمة ونحن معززون بالخيال.
تكرس الباحثة والمعلمة جينيفر جوزيتي – فيرينسي، التي تشتهر بعملها الثاقب في مجال الفلسفة والأدب الألمانيين، كتابها “الخيال: مقدمة قصيرة جدا” الذي ترجمه عبدالفتاح عبدالله وصدر أخيرا عن مؤسسة هنداوي، لاستكشاف الخيال وأهميته في الفكر والتجربة البشريين، وذلك انطلاقا من الفلسفة، والعلوم الإنسانية، والنظريات الأدبية، حيث تتناول أمثلة للخيال عبر الثقافات البشرية القديمة والحديثة ـ من الفن، والعلوم، والأدب، والموسيقى، والحياة اليومية ـ لإظهار مدى مساهماته وعمقها.
مع الخيال وضده
تقول فيرينسي “للخيال نطاق واسع، وهو يميز الحياة البشرية بعدد لا يحصى من الطرق. ومن أجل أن نفهم الخيال، يجب أن ندرك أولا مدى تنوع مساهماته في تجربتنا. فالخيال هو وسيلة الأطفال في اللعب التظاهري والجمهور في اندماجهم في الدراما واستيعابهم لها. كما يواسي من مات أحباؤهم برؤى تتجاوز الحياة الدنيوية. ويساعد الفنانين في تصوير الحياة من منظورات جديدة، فيخلقون عوالم متخيلة للقراء ليعيشوا فيها افتراضيا. وهو المسؤول عن الابتكار. فاختراع الطائرة الورقية في الصين القديمة، وتصميم الأهرامات المصرية، والهبوط على القمر، وازدهار التكنولوجيا الطبية، كلها مدينة للخيال البشري من بين المهارات المعرفية الأخرى.”
وتضيف “الخيال بالطبع أيضا هو الوسط الذي تظهر فيه الأوهام وأحلام اليقظة. فقد يحلم الأطفال بأنهم قادرون على الطيران، أو أنهم يمتلكون قوة الأبطال الخارقين، ويدمجون أوهامهم هذه في اللعب. ويستمتع الكبار كذلك بسيناريوهات بعيدة الاحتمال ـ كأن يصبحوا أبطالا في الملاكمة أو التزلج الفني على الجليد، أو يفوزوا باليانصيب ـ أو بسيناريوهات مستحيلة، مثل تفادي الموت. بالنسبة إلى الخيال، لا يهم كم قد تكون هذه الاحتمالات ضئيلة أو منعدمة في الحياة الحقيقية. إذ يمكن له اقتطاع نصيب مما هو أبعد من المحتمل أو حتى الممكن.”
وترى أن بصرف النظر عن الأوهام، فإن كثيرا من الفضل في فهمنا للواقع نفسه يعود إلى الخيال. يمكننا أن نبدأ بفهمنا للماضي. قد يكون فهمنا للتاريخ فهما جامدا وأقل حيوية، أو غير مكتمل حتى، إذا لم تكن لدينا وسيلة لوضع المعرفة في سياق تجريبي. إذ يمكننا أن نتخيل كيف كانت الحياة بالنسبة إلى جندي في إسبرطة القديمة، أو لكاتب في إيطاليا العصور الوسطى، أو لنا إن كنا حاضرين عند توقيع إعلان الاستقلال الأميركي.
وتبين أن الثقافة من نواح عدة هي إرث الخيال. حتى الروايات الأدبية يمكن أن تعيد الأحداث والأماكن التاريخية إلى الحياة من خلال زرع شخصيات خيالية في خضمها. فبينما لا نتطلع إلى رواية ليو تولستوي “الحرب والسلام” (1869) للحصول على أدلة تاريخية حول روسيا القرن التاسع عشر، فإن الرواية يمكن أن تساعدنا في تخيل ثقافتها تحت تأثير الحروب النابليونية. وأعادت الروائية الأميركية الحائزة على جائزة نوبل توني موريسون، في روايتها “جاز” (1992)، إحياء عصر النهضة في هارلم والجنوب الأميركي خلال بداية القرن العشرين لأولئك الذين ولدوا بعد ذلك بفترة طويلة من خلال الجمع بين البحث التاريخي وقوة خيالها.
وتوضح فيرينسي أن نظرا إلى هذه المرونة الهائلة، جرى تبجيل الخيال لتوسيعه نطاق الحياة البشرية ومساهماته في الإنجاز البشري. ومع ذلك، ألقي عليه باللوم بسبب الاضطرابات التي يتسبب فيها في إحساسنا بالواقع. إذ يمكن لنا أن نخضع للآمال الكاذبة ونحن منشغلون بالخيال المبالغ فيه. كما قد يشعل الخيال العواطف، ويغذي مشاعر القلق والمخاوف المبالغ فيها. والخيال هو أساس نظريات المؤامرة، وعندما يدمج مع الهواجس الثقافية يمكن أن يغذي التحيز. وفي حين يحتفى بالخيال على نطاق واسع في الثقافة الشعبية اليوم، فقد جرى التنديد به على مدار التاريخ لخلطه بين الوهم والإدراك، والسراب والحقيقة.
في حين يحتفى بالخيال على نطاق واسع في الثقافة الشعبية اليوم، فقد جرى التنديد به على مدار التاريخ سابقا
وتلفت الباحثة إلى أن الهجوم على الخيال يعود إلى أيام أفلاطون. ورغم كونه فيلسوفا واسع الخيال وميالا إليه بشكل استثنائي، فقد قدح في الخيال واصفا إياه بأنه سبيل الخطأ والالتباس. وفي القرن الـ17، أعلن عالم الرياضيات والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال أن الخيال “عدو العقل”، وصفا إياه بأنه “الجانب الخادع في الإنسان، ومصدر الأخطاء والزيف، وهو خادع بصفة خاصة لأن أوهامه ليست دائما واضحة”. ولأنه “غالبا ما يكون خاطئا”، كان باسكال يعتقد أن الخيال “لا يمكن أن يحدد قيمة حقيقية للأشياء”.
وفي روايته “راسيلاس” (1759)، اعتبر الكاتب البريطاني صامويل جونسون أن الخيال مفسد، فهو يغري العقل ليتمتع ﺑ”الزيف اللذيذ” كلما “ساءته مرارة الحقيقة”. في تلك الرواية، تمثل شخصية عالم الفلك المجنون فكرة الإسراف في الخيال، إذ يعتقد ذلك العالم أن له “سيادة خيالية” على أحوال الطقس، فيوزع ضوء الشمس والمطر حول العالم كما يشاء. وفي العقود الأخيرة، درس علماء النفس قدرة الخيال على تشويه الذكريات، أو قدرته على خلط شعور التذكر بالأفكار التي جرى تخيلها بدلا من الأفكار التي جرى تذكرها، وهو الأمر الذي لا يزال محل جدل.
وباعتبارهما من نتاج الخيال، جرى انتقاد الأدب والفنون لاشتمالهما على أوهام العواطف غير العقلانية أو تعزيزها. كان أفلاطون قلقا من أن الفنون، وخاصة الشعر الدرامي والملحمي، ستضلل المواطنين، مما يكدر النظام الاجتماعي. وحذر جونسون من أن رفاهيات الخيال ستجعل العقل يرفض “رتابة الحقيقة”. كما صور الكاتب الإسباني ميجيل دي سيرفانتس بطل روايته “دون كيخوته” بأنه قد تأثر على نحو سخيف بالأدب الخيالي. فالرجل الذي نصب نفسه فارسا بعد قراءته العديد من قصص الفروسية يضرب ببصره الخيالي في كل مكان، ويرى العالم كما يتخيله. فيقاتل طواحين الهواء التي يتخيل أنها عمالقة متنكرة كطواحين. وتكمن المفارقة في معالجة سيرفانتس بالطبع في أن قارئه ينخرط أيضا في عالم خيالي.
أهمية بالغة
تشير فيرينسي إلى أن منذ القرن التاسع عشر، حيث أصبح التفكير العلمي ثقافة مستقلة عن العلوم الإنسانية والفنون أو مناوئة لها حتى، أصبح الكتاب الأدبيون هم المدافعين المخلصين عن الخيال. فقد أشاد الشاعر الأميركي والاس ستيفنز بالخيال، ورأى أنه يمثل قدرة العقل على إدراك إمكانيات الأشياء. فكتب أن الخيال يخفف ضغط الواقع من خلال خلق منظورات أخرى لعقولنا للنظر فيها. ووصف الشاعر الأيرلندي الفائز بجائزة نوبل شيموس هيني كيف يتيح لنا الخيال الاستجابة بشكل مختلف تجاه المصائب، مما يتيح لنا التعرف على طبيعة محنتنا والنظر في الإصلاح الممكن، “إمالة موازين الواقع نحو توازن متجاوز”. بسبب هذا، يزعم هيني أن للخيال “تأثيرا محررا ومعاونا على روح الفرد”.
كما أن الاكتشافات العلمية تدين بالكثير للخيال. فقد اشتهر عن أينشتاين إشادته بالخيال بأنه “أكثر أهمية” من المعرفة، كما فصل استخدامه الخاص له في تحقيق اكتشافات في الفيزياء أحدثت ثورة في فهمنا للمكان والزمان. كما وصف شعوره بالإلهام أثناء عزف الكمان، حيث كانت تظهر الأفكار كصور في ذهنه قبل التعبير عنها باللغة والمفاهيم العلمية. قد يعد خيال أينشتاين الخاص حالة استثنائية من العبقرية. ومع ذلك، كان هو نفسه يعتقد أن الخيال مطلوب لكل أشكال التقدم العلمي. يقول “إن إثارة أسئلة واحتمالات جديدة، والنظر إلى مشكلات قائمة من زاوية جديدة، يتطلبان الخيال الإبداعي، ويميزان التقدم الحقيقي في العلوم.”
وقد ردد علماء آخرون صدى تقدير أينشتاين للخيال. إذ عبر الحائزان على جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب، فرانسوا جاكوب وإريك آر كاندل ببلاغة عن التشابه الشديد بين البحث العلمي والإبداع الفني، في حين وصفت إليزابيث بلاكبيرن “عملية البحث العلمي التي يكشف الإبداع والعبقرية البشريين من خلالها عن نمط داخل ما بدا كأنه فوضى وغموض” بأنها جميلة. وسواء أكان الخيال أكثر أهمية من المعرفة أم لا، فقد قال العلماء بأن المعرفة الحالية لا يمكن أن تتطور بدونه.
وتضيف أن نيتشه يصف إجراءات التفكير بأنها “مدفوعة بقوة غريبة، غير منطقية ـ قوة الخيال الإبداعي” حيث تقفز من إمكانية إلى أخرى. في هذا التفكير “سيظهر الهاجس الإبداعي المكان؛ فيخمن الخيال من بعيد أنه سيجد هنا مكانا منطقيا للراحة. لكن القوة الخاصة للخيال هي الإدراك والتوضيح السريعان كالبرق للتشبيهات”. هنا يصف نيتشه التفكير الخيالي كتنقيب حدسي عن الإمكانيات، وهي عملية قد يتعرف العقل من خلالها على التشبيهات ويوضحها، مغذيا ظهور الأفكار الجديدة. في هذا التحليل للإدراك وفي نظرية نيتشه الجمالية المأساوية، يعتبر الخيال قوة بشرية حيوية، ويستبق النظريات المعاصرة للإدراك الإبداعي.
وتؤكد فيرينسي أن الخيال يشارك في تكوين تجربتنا للعالم. فهو يغذي التجارب الجمالية مثل تلك الخاصة بالجمال والسمو. ومع ذلك، قد نشرك أيضا هذه القدرة بشكل متعمد، في تفاعلها الحر والعفوي، لتحويل ما يظهر مباشرة في تجربتنا. فالخيال الإنتاجي يجعل الإبداع البشري، ومن ثم الثقافة البشرية، ممكنين. وتأكيد كانط على أن الخيال الإنتاجي يساهم في تكوين التجربة وتعزيزها جماليا جعل المفكرين والكتاب الرومانسيين يدركون بقوة قوة الخيال وأهميته. فرأوا أن الخيال يسمح للعقل البشري بفهم ما يتجاوز التجربة المباشرة، كما يسمح بالتوفيق بين العقل والطبيعة.
ومحاولة كولريدج لفهم الخيال باعتباره مستقبلا لوعينا وموجها به أطلقت نظرية عن الإبداع ستكون مؤثرة في القرون التالية. ونجد صدى النظرة الرومانسية للخيال باعتباره عنصرا لتوحيد الحياة الداخلية للفرد مع العالم، وإن كانت هذه النظرة قد تحولت جذريا، في احتفاء نيتشه بالفن ودعوته إلى قدرة خيالية أكثر أصالة وحيوية من تمثيلاتنا المفاهيمية للأشياء.
الكتاب يستكشف الخيال وأهميته في الفكر والتجربة البشريين، وذلك انطلاقا من الفلسفة والعلوم الإنسانية والنظريات الأدبية
وتتابع فيرينسي أنه ليس هناك ما يمكن أن نلاحظ فيه الخيال الإنتاجي أكثر من الإبداع، حيث يمكن استخدام أنماط متعددة من الخيال لتوليد أفكار جديدة ومفيدة وذات مغزى. فمن خلال الإبداع، ندمج الخيال مع العالم من حولنا، مستخدمين الأشياء المادية، أو الأصوات، أو اللغة، أو الأفكار القائمة لصياغة شيء جديد. وعلى الرغم من أن مهارات التفكير العادي قد تكون مشاركة في هذا، فإن الإبداع لا يتبع مساراته المعتادة، بل يطفر بشكل غير متوقع. والإبداع ضروري (ليس فقط في الفنون ولكن أيضا في العلوم) لحل المشكلات وتحسين حياتنا اليومية.
تشير إلى أنه في أوائل القرن السادس عشر، وضع ليوناردو دا فينشي دفاتره التي تتألف من الآلاف من صفحات الرسومات التي تسجل بين أمور أخرى أفكارا للاختراعات وخططا لتحويلها إلى واقع. وبفضول لا يعرف الكلل، درس ليوناردو بين أمور أخرى كثيرة طيران الطيور والخفافيش والحشرات، إلى جانب تشريح الإنسان، وجمع نتائجه في تصاميم للطائرات، مثل الطائرة الخفاقة والطائرة المروحية.
وفي حين لم يبن بنجاح من بين هذه التصاميم إلا مظلة الهبوط والطائرة الشراعية المعلقة، كانت أفكار ليوناردو سابقة لوقته بقرون، وينظر إليها الآن على أنها بمثابة استباق للتصاميم المحاكية الحيوية المعاصرة. فهي تثير ما سيصبح تاريخ الطيران البشري، الذي كانت شرارته نظام النقل ببالون الهواء الساخن للأخوين مونجولفييه (1783)، وأول رحلة طيران بشرية بمحرك للأخوين رايت (1903)، وسفر نيل أرمسترونج وباز أولدرين إلى القمر في مركبة أبولو 11 (1969). بينما قد تتوافق هذه الاختراعات جميعا مع الأهداف العملية، قد يكون الإبداع خاليا تماما من الغرض العملي، فنطلبه فقط من أجل ممارسته في حد ذاته.
في عام 1974، اشتهر مسير فيليب بيتي من غير عون بين برجي مركز التجارة العالمي على حبل مشدود على ارتفاع 1350 قدما (411 مترا) فوق الأرض. وقد وصف فنان الاستعراض على الحبل المشدود بأنه شعر بأنه مبهور بالسماء، إذ يتجرأ على الدخول إلى مجهول مثير. وبهذا الحدث الفريد الذي كان موضوع العديد من الأفلام والكتب، أنجز بيتي ما كان يبدو حتى ذلك الحين مستحيلا، وألهم انتشارا واسعا للتأملات الإبداعية. يعكس استعراضه الدافع البشري لاستكشاف الإمكانيات لأجلها بذاتها ودمجها في الواقع. قد توضح هذه الأمثلة جميعا حلما بشريا قديما. فربما تحركت الرغبة في تجاوز القيود، والارتقاء فوق العالم، ورؤيته كما نتصور أن الله قد يراه، لدى البشر الأوائل لأول مرة وهم يسجلون مواقع النجوم على جدران الكهوف.
تبين هذه الإنجازات أيضا الإبداع كوسيلة لتسهيل التحول في منظورنا البشري، مما يتيح ما سماه سارتر “استكشاف إمكانية” العالم الذي نعايشه. ويمكن القول إن في كل عمل إبداعي، تنشأ فكرة جديدة وذات مغزى من خلال دمج أفكار سابقة ـ الشمع والريش، والأشكال التصويرية، والجغرافيا الأثرية، وطيران الطيور، وتشريح الإنسان، وسير الإنسان، وارتفاع ناطحات السحاب. ولكن بعيدا عن مجرد دمجها معا، تدمج هذه الأعمال الإبداعية الإمكانية في تجربة بشرية نعايشها، لتغيير حالة معينة من الواقع، ولتوسيع مفهومنا لما هو ممكن.