الأحذية الضيقة تتسع للألم الكبير

في كتابه «كل أحذيتي ضيقة» يستعيض عادل أسعد الميري في كتابته لسيرته الذاتية ببطل يحمل اسم ناجي نجيب مسيحة المنياوي، لكي يعطي ذاته مساحة للبوح الذي وصل إلى حدّ التعرية، تعرية ذاته ونزواته الجنسية وعائلته القبطيّة المفرطة في محافظتها على التقاليد، وهو ما حدا بها إلى مقاطعة عمّه واتهامه بأنه شوّه العائلة، وبالمثل فعل أخوه الوحيد الذي قاطعه لمدة ثلاث سنوات.
حالة عادل أسعد الميري كانت أشبه بحالة بول أوستر في «اختراع العزلة» التي أوقف قسمها الأول لفضح العائلة اليهودية، وإن لم يكن هدف الميري هنا الانتقام من العائلة كما فعل أوستر وإنما كان الانتقام من ذاته، بتحقيق الرغبة الدفينة التي حُرم منها وهو صغير في ظلّ بطريركية عائلة أوصلته إلى حالة من الاستسلام والخضوع لها وللآخرين الذين مروا في حياته، بأوامرها ونواهيها التي تنسجم مع وضعها الاجتماعي أو المادي، ومن ثمّ آل جاهدا لأن يتمرد عليها، كاسرا كافة التابوهات التي وضعت أمامه وهو صغير. ومن ثمّ جاءت السيرة الروائية أشبه بجرس إنذار للعائلات عبر هذه الصدمة التي يواجهها قارئ هذا العمل.
الانتقام من الماضي
يقدّم صاحب «كل أحذيتي ضيقة» الصّادرة عن دار آفاق بالقاهرة، صورة حقيقية ومفجعة عن واقع الأقباط داخل مصر، مظهرا حالة النفور والكراهية التي يُكنها كل طرف للآخر حتى لو ادّعى عكس ما يُبطن. فيتجرد الميري مِن كلّ مظاهر المجاملات المتعارف عليها في التعبير عن هذه العلاقة، فيكتب عن آلام القبطي داخل وطنه، والشعور بالاغتراب الذي يعانيه في ربوعه، وهو ما دفع صديقه الذي فاقه في الثانوية وحصل على درجات أعلى منه، إلى أن يتوارى خلف أيقونة باسم الله التي كتبها في كلّ صفحة من أوراق الإجابة، في إشارة ذات مغزى لانتقاد سياسة التعليم التي تُفرِّق بين أبناء الوطن على أساس الديانة، وقد انتهت هذه السياسة بصديقه إلى أن يلخص له واقعها المرّ في نصيحة قائلا «احنا مالناش عيش في البلد دي!».
حكايات الراوي الشخصية تتقاطع مع حكايات آخرين، كما أنه يأتي على ذكر الأوضاع السياسية العامة واستشراء الفساد
الكتاب هو سيرة ذاتية في إطار روائي وإن غلبت على موضوعاته المكوّنات السيرية والوقائع الشخصية، حيث يتتبع الكاتب طفولته في طنطا وهو يحكي عن علاقته الوطيدة بزملائه المسلمين، ومشاركتهم عدم الأكل في نهار رمضان، ثم يبدأ في تقويض الأكاذيب الرائجة عن عنصري الأمة واتحاد الهلال مع الصليب، في مواقف مرّ بها وعاصرها، فيحكي عن الألم الذي انتابه وهو يسمع من سائق تاكسي أن الرائحة القذرة التي يشمها عند تقاطع 26 يوليو مع الطريق الدائري هي رائحة المسيحيين الذين يسكنون وسط القمامة.
لايقف الراوي عند رصد حالة العداء بين المسلمين والمسيحيين فقط بل يشير إلى العداء بين المذاهب المختلفة داخل الكنيسة، وهو ما جعل أحد أقاربه يقول له كلما رآه إن أباه وأمه يعيشان في الحرام! ويُضمِّنُ الكاتب كتابه كولاجات بمقتطفات الصحف في هذا الزمن، متتبعا التطورات والتغيرات التي حلت بالمجتمع، كما يُزيّنه بمقتطفات من نصوص أخرى قريبة من نفس الموضوع مثل ما روته زوجة صلاح جاهين منى قطان، عن احتجاجهما على قضبان المنازل. وهو ما جعله يجترّ ذكريات عن هذه المواقف التي كان يعيشها في البيت. ولكي ينتقم من الماضي القاسي سعى إلى أن ينتقم من هذا الماضي، وإلى تصفية حساباته بأنه يقضي طول عمره يطوف ويلف الشوارع كـ”صايع” أزلي، محاولا تعويض ما فاته من حرمان الطفولة.
|
تجربة الطفولة الصعبة التي مرّ بها الراوي تدفعه إلى أن يتوجه ناصحا إلى الآباء بأن ينتبهوا إلى خطورة تربية الأطفال قبل سن السّادسة حيث يشير علماء النفس إلى أن ثلاثة أرباع شخصية الطفل وطباعه التي تظل معه إلى نهاية العمر، تتشكّل قبل السادسة. يصف علاقته بأمه التي كانت تشرف على نظافته وتصفيف شعره حتى سن متأخرة من عمره، ويصفها بأنها علاقة سادية مازوخية بين سيد ومسود، وكيف أنّها وجّهت مساعيها لعرقلة زواجه إلى أن وصل إلى السابعة والثلاثين، فالأم كانت متعلِّقة به إلى درجة لم تسمح بابتعاده عنهـا. وهو الأمر الذي انعكس على تفكيره.
عالم الليل
التربية المتشدِّدة كانت لها نتائجها السيئة، فكانت بداية اكتشافه لجسده في الثلاثين من عمره، وهو ما دفعه إلى التمرد على الأم والعائلة، وهذا الإحساس ظل ملازما له حتى سفره إلى لندن، وهناك بدأ تدريجيا يتمرد وإن كانت صورة الأب أو الأم غير موجودة، فانقاد مع أصدقائه إلى حفلات البيتلز، ودخل إلى قاعات رقص الاستربتيز. لكن الشيء الغريب أن كل تجارب التمرد والمراهقة مارسها بعد تجاوز سنها الأصلي.
يربط الكاتب بين سيرته الذاتية والتحولات التي جرت على شخصيته وصولا إلى التمرد على السلطة الأبوية، وسعيه إلى تجريب كل ما فاته في مراحله السابقة، والتحولات المجتمعية حيث موضات الملابس (الجينز) وأيضا الموضات الغنائية والأفكار الرائجة التي تعكس أفقا رحبا يميل إلى الانفتاح والاستجابة لكلِّ ما هو جديد، كما هو حال فتيات الجامعات اللاتي التقى بهن مع صديقه وهن يرتدين ميني جيب، عاكسا تأثير سياسة الانفتاح في عام 1976.
كما يربط رحلة تمرده واشتراكه بفرقة موسيقية في شارع الهرم، بالمحلات الشهيرة والملاهي الليلية، وأشهر مطربيها وفرقها، والألوان الموسيقية التي تقدمها مثل بالميرا وميامي ونيو أريزونا وكأن الكتاب تسجيل دقيق لعلب الليل، وما يحدث فيها من مغامرات وإثارة.
تجربة الطفولة الصعبة التي مرّ بها الراوي تدفعه إلى أن يتوجه ناصحا إلى الآباء بأن ينتبهوا إلى خطورة تربية الأطفال
حكايات الراوي الشخصية تتقاطع مع حكايات آخرين مثل حكاية لولا المغنية التي وقع في غرامها، فيسرد حكايتها التي تعكس واقع فتيات العلب الليلية المرير، وكيف أن الظروف والضغوط الاجتماعية هي التي تدفع بهن دفعا حثيثا إلى هذا العالم السّري بنزواته ومغامراته وأيضا بلذاته.
يقف الكاتب عند دولاب العمل الحكومي ودهاليزه، وحالات الاضطهاد التي يتعرض لها دائما الأصغر من الأكبر مقاما، وهو يكشف استشراء الفساد في كافة المؤسسات. كما يمر على الأوضاع المزرية للتعليم وعلاقة الأساتذة والطلاب، والنظرة الاستعلائية التي يتعامل بها هؤلاء الأساتذة مع الجيل الأصغر منهم.
يربط الكاتب بين الأحداث السياسية التي كان لها تأثيرها على الاقتصاد، فيرصد أثر ما فعله سليمان خاطر، وخطف الطائرة المصرية في تونس، وخطف المركب أكيللي لاورو، وأحداث الأمن المركزي، وضرب طرابلس ليبيا من الطيران الأميركي، وتأثير ذلك على السياحة التي عمل فيها كمرشد. كما يتحدث عن رحلاته إلى المغرب وفرنسا وتونس وإلى أوروبا، وعن المهن التي اشتغل بها بعد تركه الطب، كالعزف في الملاهي الليلية وهو ما يستثمره في كتاب آخر بعنوان «شارع الهرم» حيث يحكي فيه عن مغامراته في علب الليل، وعمله في الإرشاد السياحي، وحبّه له.