الأب فرانس الهولندي يقتله مجهول برصاصة في الرأس

ولد في لاهاي، وحوصر في حمص، ورفض الخروج في صفقة إخراج المدنيين عن حمص، ليبقى فيها جائعاً مع الجائعين، عطشاً مع العطشى، قال إن علب الزيتون والقمح والبرغل التي كانت مملوءة من قبل، ستعود وتمتلئ من جديد، ولكنه قبل أيام، فوجئ بدخول مجهول، إلى غرفته المتقشفة الزاهدة، ليطلق النار على رأسه ويقتله بعد أن صار أيقونة جديدة أخرى من أيقونات الثورة السورية بصموده ومناشدته العالم فك الحصار عن حمص وأهلها، إنه الأب الهولندي فرانس فان در لوخت، والذي كان مقيماً في دير الآباء اليسوعيين في حمص القديمة، قريباً من ضريح خالد بن الوليد القائد العربي المسلم الذي اتخذ من حمص مستقراً له ومات فيها.
وقد روى أحد إخوته في دير الآباء اليسوعيين، وهو الأب نعمان أن شخصاً ملثماً، دخل إلى دير الآباء اليسوعيين في بستان الديوان في حمص المحاصرة، وقام بإطلاق النار على الأب الهولندي وأرداه قتيلاً، ويسكن الأب الهولندي فرانس فان در لوخت في سوريا منذ عقود، أما دير الآباء اليسوعيين فقد تحوّل إلى ملجأ لمختلف الحمصيين مسيحين ومسلمين، وكان الأب فرانس فان در لوخت قد قال عن حصاره في حمص من قبل قوات بشار الأسد: ” حصلت على الكثير من الشعب السوري، من خيره وازدهاره. واذا كان يتألم حالياً، فأحب أن أشاركه ألمه ومشكلاته. أحب أن أكون مع الشعب السوري، أن أقدم إليه بعضاً من التعزية والتواصل والتعاطف، ليقدر على تحمل هذا الألم الفظيع".
في العام 1938 ولد فان دير لوخت ثم درس في العاصمة أمستردام وأصبح راهباً متبتلاً في سن العشرين، وفي عالم اللاهوت تعمّق في الفلسفة وتعلم العربية وتخصص في علم النفس، وصل إلى سوريا في العام 1976، لخدمة المسيح في دمشق وحمص وحلب واللاذقيّة.
مشروع الأرض
أثناء دراسته اللاهوتيّة في فورفيير الفرنسية اندلعت الاحتجاجات الطلابية، وبعد العام 1968، بدأ الشباب الأوروبي موجة جديدة من الاستشراق، ولكنه استشراق روحي هذه المرة، فقدم عدد غير قليل منهم إلى المشرق العربي للتعمق في الروحانية والعربية وعلوم الشرق القديم، فكان فان دير لوخت أحد هؤلاء، وبدأ حياته الرسوليّة لدى تلاميذ مدرسة حمص قبل تأميمها، كما نشّط جماعات شبيبة مسيحية في حلب ودمشق وحمص، وواصل ممارسة وتعليم الرياضات الروحيّة في جبال الساحل في صلنفة، كتب عنه “لقد فهِم أنّه ما من مستقبل للكنيسة في سوريا إلاّ بانفتاحها على المسلمين”. فأطلق مشروع “الأرض”، وهو مشروع زراعيّ في ضواحي حمص على صلة بالقرى المسيحيّة والإسلاميّة المجاورة، يعتني بوجهٍ خاصّ بالمعوّقين العقليّين في تلك القرى ويقوم بنشاطات لهم. ولسنوات، بقي ينظّم “المسير”، وهي رياضة سير على الأقدام تجمع الناس من مختلف الأعمار والأديان والاهتمامات وتستغرق وقتاً يتيح التواصل والحوار.
عاش الأب فرانس قرابة خمسين عاماً في سوريا، وقال إنه شارك الشعب السوري فيضه في رخائه، وعليه أن يشاركه اليوم في أزمته ومصابه
وأصبح فيما بعد يعمل كرئيسِ ديرٍ في حمص ودمشق، وكمندوب للرئيس الإقليميّ في سوريا، وانشغل بالتأليف والكتابة فأصدر باللغة العربية ” من الفشل إلى النجاح” في العام 1991 و”الإصغاء والحبّ” في العام 1992 و”من أنت أيّها الحبّ؟” في العام 1996 لتصدر من تلك الكتب طبعات كثيرة ولتنتشر انتشاراً كبيراً بين الشباب.
يوميات الحصار
كتب الأب فان دير لوخت في ذكرى مرور أول سنة على بدء قوات بشار الأسد بمحاصرة حمص وأهلها: “سنة كاملة في حالة الحصار. إن جماعتنا الآن متألفة من 75 شخصا، نصفهم عازبون ونصفهم متزوجون. تعيش أكثرية المتزوجين دون شريك ودون أولاد، وقد توفي في مرحلة الحصار 15 شخصا موتا طبيعيا، نقدّس يوم الأحد مع بعضنا البعض في كنيسة الآباء اليسوعية ونعطي بقدر الإمكان لكل طقس حقه، معظمنا من طائفة الروم الأورثودكس ونجد أيضا مؤمنين من طوائف أخرى مثل السريان الأورثودكس، الروم الكاتوليك، السريان الكاتوليك، البروتستانت، نجد بعضنا البعض بعد الصلاة بلقاء أخوي وبزيارات بيتية، ندعو الجماعة يوم الأربعاء إلى الفطور وتحضر جماعة من الدير المناقيش للجميع على نار الحطب، تحب الجماعة الالتقاء ببعضها البعض وتقدم خدمات للمحتاجين، يطبخ البعض مزيدا من الأكل حتى يستطيعوا التوزيع على الآخرين، نجد اهتماما خاصا للمسنين ويشعر كل واحد بأنه لا يعيش وحده بل منتميا إلى جماعة، إن هذا الانتماء مهم لأن كل شخص يعاني كثيرا من الصعوبات ويعيش الظروف المؤلمة مختلفا عن الآخر، ننتظر في كل مرة أن يكون الفرج قريبا ويستعمل أناس العبارة “بهاليومين ” بل أصبحت هاليومين أسبوعا وشهراً وسنة، وعلينا أن نصبر كل مرة من جديد ونواجه المجهول والمخيف، انتقل أناس من بيوتهم إلى بيت جديد بسبب الخطر وغيرهم يعانون من تضرر بيوتهم، ويتساءل الكل: ماذا سيحدث؟ كل شيء ممكن.. إن أبعاد خلفيات ظروفنا غامضة وعلى التاريخ توضيحها وإدراكها، شخصيا أشعر بأهمية هذه الظروف ولا أحب أن أكون في مكان آخر، ولي الشرف أن أعيش تقريبا 50 سنة في هذا البلد العزيز عليّ واغتنيت بكنزه وتعاملت معاملة أخوية ومحبة، مثلما شاركت سوريا بفيضها، أحب أن أشاركها الآن بألمها، تسمح لي ظروفي أن أتواصل كل يوم من الداخل مع الشعب السوري وألمه ولا يمكن هذا التواصل إلا بمشاركة يومية وواقعية.. لا أستطيع أن أتخيل نفسي في مكان آخر".
حوّل الأب فرانس نفسه إلى وثيقة إدانة لحصار ميليشيات الأسد للمدنيين في حمص، ومات على صليبها، ليكون موته صدمة إضافية للعالم الذي اتهمه بالصمت والخذلان
رئيس الدير والمقابلة القاتلة
تمكن الأب فرانس من التحول إلى شاهد حي، ميّت اليوم حي في قلوب محبيه وفي ما ترك من كتابات ووثائق، وكان نظام الأسد يسكت على وجوده، ويغض الطرف عن مساعدته للمحاصرين، ولكن الأب فرانس تجاوز خطوط النظام الحمراء حين قال قبل أقل من شهرين لوكالة “فرانس برس″ في حوار عبر “سكايب”، إنه لن يخرج من حمص وتساءل: “أنا رئيس هذا الدير، كيف أتركه؟ كيف أترك المسيحيين؟ هذا من المستحيل”. وأضاف: “ثمة أيضا سبب مهم جدا بالنسبة إليّ، أنا حصلت على الكثير من الشعب السوري، من خيرهم وازدهارهم. كون الشعب السوري يتألم حاليا، أحب أن أشاركهم ألمهم ومشاكلهم”، واشتهر قول الأب فرانس من قبل عن الشعب السوري إنه “لا مثيل له”، وقد انتقد
في حديثه مع “فرانس برس″ المجتمع الدولي بسبب إهماله للأزمة السورية القائمة منذ أكثر من ثلاث سنوات والتي أودت بأكثر من 150 ألف قتيل، وأضاف: “أشعر دائما أن المجتمع الدولي في واد ونحن في واد. هم يتحدثون ويجتمعون في مطاعم وفنادق، لكن ما نعيشه هنا بعيد جدا عما يعيشونه. يتكلمون عنا لكنهم لا يعيشون معنا".
كتب الأب فرانس: "نحن تحت الحصار. جماعتنا الآن متألفة من 75 شخصا، نصفهم عازبون ونصفهم متزوجون. تعيش أكثرية المتزوجين دون شريك ودون أولاد، وقد توفي في مرحلة الحصار 15 شخصا موتا طبيعيا"
الاضطهاد عند الأب فرانس
كتب الأب فرانس شارحاً فكرة واضحة عن معنى الاضطهاد الذي يتاجر به نظام الأسد وحلفاؤه من الإيرانيين والميليشيات الشيعية في لبنان والعراق: ” لماذا يضطهد الإنسان الآخر؟ من الممكن أنه لا يتحمل بحث الآخر عن الحق والعدالة أو يقوم على الآخر بسبب انتمائه الديني أو مواقفه السياسية أو تصرفاته الشخصية السلبية . فيما يخص المسيحيين، علينا أن نميز بين الاضطهاد الذي يسفر عن مواقف إنجيلية، والاضطهاد الذي ينجم عن الانتماء إلى الدين المسيحي أو عن غير مصادر.
ينبع هنا الاضطهاد من الجوع والعطش الى البر، يعني إلى العدالة والحق. إذا بحث أحد عن العدالة والحق يعرض نفسه للاضطهاد، كان يسوع مضطهدا لأنه كان يستقبل روح الحق من أبيه السماوي فيضع باسم الحق بعض الأمور الاجتماعية والدينية موضع التساؤل.
رفض الأب فرانس خرافة اضطهاد المسيحيين من قبل الشعب السوري الثائر، وقال: "من الممكن أيضا أن يضطهدونا لأننا لا نعيش حياتنا وديننا بروح الحق. واذا كان المسيحي مضطهدا لا يكون دائما مضطهدا بسبب انتمائه للإنجيل أو لدينه بل أيضا لأسباب أخرى، إيجابية أو سلبية"
ويصحّ أن نترك الأب فرانس يتحدث من عالمه الآخر، دون أن نضيف الكثير، أو نشوش على كلماته، أقيم له قداس سرّي، وكان قد أوصى أن يدفن في سوريا. مات على صليب حمص.. التي يقول لها شعبها: “فليكن موت ابنك حياة لطالبيها”.