الآثار النفسية للأفلام تلاحق المتفرجين

استجابات الناس للأفلام قد تصل إلى الصدمة أو الاكتئاب.
الاثنين 2024/04/08
الأفلام تؤثر في أفكارنا ومشاعرنا

تخلق الأفلام لدى من يشاهدها حالات انفعالية مطلوبة يحققها الجانب الترفيهي فيها، فالإثارة والتشويق والحماسة والخوف والترقب وغيرها كلها مشاعر تلعب السينما على خلقها في دواخل من يشاهدها، لكن الأمر قد يتجاوز الترفيه إلى التأثير النفسي العميق الذي قد يكون كبيرا لدى البعض ويستمر حتى بعد نهاية الفيلم بزمن طويل.

الأفلام شأنها شأن كل الفنون مشبّعة بالعقل البشري؛ فهي من صنع البشر، وتجسد أفعالا بشرية، ويشاهدها جمهور من البشر. إنها شكل فني مفعم بالحيوية البالغة، يستخدم صورا متحركة أخاذة، وأصواتا نابضة بالحياة، للربط بين صناع السينما والجمهور عبر شريط السيلولويد والحواس. انطلاقا من هذه الرؤية ومن فرضية أساسية ترى أن جميع الأفلام مفعمة بالعناصر السيكولوجية، وزاخرة بالدراما الإنسانية التي تم تناولها من العديد من الزوايا المختلفة، يأتي كتاب “السينما وعلم النفس: علاقة لا تنتهي” لسكيب داين يونج، أستاذ علم النفس بكلية هانوفر، إنديانا، والمهتم بالثقافة الشعبية، وعلم النفس السردي.

يركز الكتاب، الذي ترجمه سامح فرج وراجعته إيمان نجم وصدر عن مؤسسة هنداوي، اهتمامه على تشكيلة واسعة من الأفلام ذات القيمة الفنية الرفيعة.

التأثير النفسي

رغم أن الأفلام لا تملك أن تحول الأفراد المستقرين نفسيا إلى حطام نفسي، فإنها تؤثر في التركيبة النفسية للأفراد
رغم أن الأفلام لا تملك أن تحول الأفراد المستقرين نفسيا إلى حطام نفسي، فإنها تؤثر في التركيبة النفسية للأفراد

يناقش يونغ الأفلام السردية، ويقول إن معظم هذه الأفلام يروي قصصا لها بداية، ووسط، ونهاية. بعض تلك الحكايات بسيط، وبعضها الآخر معقّد. بعضها يروي قصصه بطريقة مباشرة جدا، بينما بعضها الآخر يستخدم تقنية الفلاش باك مثل “تيتانيك”، أو الغموض المتعمد (دوني داركو) أو متواليات زمنية مربكة مثل “خيال رخيص”. ومن حين لآخر، فإن فيلما تجريبيا مثل “كويانيسكاتسي”، الذي يكاد أن يستغني تماما عن القصة لصالح التركيز على حركات، وأشكال، وألوان مجردة، يجد له جمهورا، لكن هذا أمر نادر الحدوث. ومن هنا، أفترض، بوجه عام، أن هناك شيئا في البنية السردية يجده الناس آسرا على نحو خاص.

ويرى أن معظم الأفلام التجارية تروي قصصا خيالية؛ فهي لا تزعم أنها تعرض الأحداث كما وقعت بالفعل. وحتى تلك الأفلام التي تتناول سير أشخاص وتجاهد في سبيل الدقة التاريخية، يتمّ فهمها بوصفها “إعادة تجسيد” لأحداث ماضية. والأفلام الوثائقية استثناء من ذلك؛ لأنها تستهدف تقديم بشر حقيقيين وأحداث حقيقية. لكن، في معظم الأحوال، تصاغ تلك الأفلام بحيث تروي قصة عن شخص، أو حدث، أو ظاهرة ما. فلقد تم التوسع في أسلوب الأفلام الوثائقية بما يتجاوز البرامج الإخبارية التليفزيونية و”قناة هيستوري” لتشمل أفلاما حققت نجاحا كبيرا؛ مثل “فهرنهايت 9/11″، و”مسيرة البطاريق”، و”في انتظار سوبرمان”.

ورغم أن القصص الوثائقية تتمتع بسمات سيكولوجية مختلفة نوعا ما، فإن بؤرة اهتمام هذا الكتاب هي الأفلام الروائية. والأفلام التجارية الطويلة هي، على وجه التحديد، محطّ اهتمامي الرئيسي؛ ذلك لأن معظم الناس ليست لديهم الفرصة لمشاهدة الأفلام القصيرة أو أفلام الهواة بصفة منتظمة.

ويلفت يونغ إلى أن جميع أشكال الترفيه تحتوي على خصائص فنية، كما تحتوي جميع الفنون على خصائص ترفيهية. ويميل مصطلح الترفيه إلى الإشارة ضمنا إلى أن الناس يسعون إلى الشيء لأنه ممتع. من المفترض أيضا أن يجد الناس متعة ما في تجاربهم الفنية، وإلا فإنهم على الأرجح لن يسعوا إليها مرة بعد أخرى.فالمشاهدون الذين يزعمون أنهم يشاهدون الأفلام لقيمتها الجمالية فقط، وليس لأنهم يستمتعون بها، إنما هم منغمسون في طقس مازوخي بعيدا تماما عن الشغف الواضح لعشاق أفلام كل من آدم ساندلر وإنجمار برجمان “وبالطبع، فإن فرويد كان سيذهب إلى أن ذواقة الجمال المازوخيين يجدون متعة غير واعية في مشاهدتهم الطقوسية تلك على كل حال”.

يؤكد يونغ أنه كثيرا ما تستثير الأفلام ردود فعل شعورية قوية، لكن استجابات الناس للأفلام، من حين لآخر، قد تبلغ من القوة حد أن تظهر عليهم أعراض الصدمة الشديدة، أو الاكتئاب، أو الذّهان. وتتناثر في أدبيات الطب النفسي دراسات حالة تتناول مثل تلك الحالات من ردود الأفعال الإكلينيكية الحادّة. فبعد مشاهدة فيلم “غزو خاطفي الأجساد”، بدأ صبي في الثانية عشرة من عمره يعتقد أن كائنا غريبا غزا جسده، وأنه إذا قام أي شخص بلمسه، فإن يديه سوف تخترقانه.

ورغم أن ردود الفعل تحت الإكلينيكية على فيلم “الفك المفترس” تعد شائعة مثل العزوف عن السباحة في البحر، فإن ثمة فتاة في السابعة عشرة من عمرها عانت من نوبات كانت تصرخ خلالها “قروش! قروش!” ثم تفقد الوعي لوهلة قصيرة”. أما فيلم “طارد الأرواح الشريرة” فلم يثر ردود فعل قوية فحسب، بل كان أيضا عاملا محفّزا في حدوث سبع حالات مختلفة من الاضطرابات النفسية. فقد أصيبت امرأة في الثانية والعشرين من عمرها بأعراض قلق حادة، شملت الأرق، وتقلّصات في البطن، ونوبات هلع. كذلك عانى صبي مراهق من ذكريات تطفلية عن الفيلم، فكان يسمع ضوضاء في الليل، وانغمس في تعاطي المخدرات في محاولة لمحو ذكرياته عن الفيلم.

ويرى أن ردود الأفعال التي تتطلّب علاجا نفسيا في المستشفى أمر نادر، لكنها تقع عند أحد طرفي المتسلسلة الشعورية التي تمثل جزءا من خبرة الفيلم. ورغم أن الأفلام لا تملك أن تحول الأفراد المستقرين نفسيا إلى حطام نفسي، فإن تلك الأمثلة تعطينا أمثلة للتفاعل بين الصور الرمزية المقدمة في السينما والتركيبة النفسية لأفراد بعينهم. فجميع الأشخاص الذين أتى على ذكرهم أعلاه كانوا يعانون من ضغوط في علاقاتهم مع الآخرين قبل مشاهدتهم الفيلم موضوع البحث، وبعضهم أيضا لديه سجل مرضي في العلاج النفسي.

الخوف والقلق شعوران شائعان عند مشاهدة الأفلام ولهما دور في الاستمتاع بأفلام الرعب والإثارة لكنهما قد ينفلتان

ومن هنا، فإن توليفة الرموز في الفيلم أجّجت مشاكلهم الشخصية الموجودة سلفا. فقد أثارت تيمة المسّ في فيلم “طارد الأرواح الشريرة” انزعاج سيدة حامل غير متزوجة كانت تخوض صراعا ضد الشعور بالذنب النابع من إيمانها الكاثوليكي. إن تركيبة شخصيتها الحدّية قامت بفصل جزء من نفسها اعتبرته شريرا. وكان المس الشيطاني في الفيلم يرمز إلى هذا “الجزء الشرير” بالإضافة إلى قلقها على طفلها الذي لم يولد بعد.

ويقول يونغ إن “الخوف والقلق شعوران شائعان عند مشاهدة الأفلام، ولهما دور محوري في الاستمتاع بأفلام الرعب والإثارة، لكن يحدث أحيانا أن يستمر هذا الشعور بالخوف بعد انتهاء الفيلم. إن الاضطرابات النفسية التي ناقشناها أعلاه هي حالات متطرفة، بيد أنها من الظواهر الشائعة. فكلما سألت طلابي إن كانوا قد شاهدوا فيلما أثار فيهم فزعا شديدا، فإن أغلبهم يذكرون فيلما واحدا على الأقل، مستشهدين بأفلام رعب مثل ‘سايكو‘، و‘المقصد الأخير‘، و‘طارد الأرواح الشريرة‘، أو أحد أفلام الحرب المأخوذة عن قصص واقعية مثل ‘فندق رواندا‘ أو ‘إنقاذ الجندي ريان‘. وقد أكدت بعض استطلاعات الرأي الرسمية تلك النتيجة. والاستجابات النمطية تشمل صعوبة في النوم أو ذكريات تطفلية عن بعض المشاهد المزعجة. بعض تلك الاستجابات الشعورية كانت قصيرة الأجل، لكنّ هناك كثيرين تحدّثوا عن شعور بالخوف استمر عاما كاملا. ورغم أن معظم تلك الاستجابات لم تتم معالجتها، فإن استطلاعات الرأي الاسترجاعية أظهرت أن الأعراض التي أتى ربع المشاركين على ذكرها هي استجابات إكلينيكية خطيرة ناتجة عن الشعور بالضغط”.

ويوضح “من الحالات التي سجلت بكثرة، استجابات الخوف الشديدة لدى الأطفال، وتعتبر اضطرابات النوم أكثرها شيوعا، لكن ثمة دراسات أخرى أظهرت أن الأطفال يتجنّبون الأنشطة التي ترتبط في أذهانهم بمشهد مخيف من أحد الأفلام. فعلى سبيل المثال، الأطفال الذين شاهدوا منزلا تلتهمه النار في فيلم ‘منزل صغير في البراري‘ كانوا أقل اهتماما بتعلّم كيفية إشعال النار في المدفأة من الأطفال الذين لم يروا المشهد. والسبب في أن ردود فعل الخوف لدى الأطفال أكثر قوة منها لدى البالغين، يتعلّق بمستوى القدرات المعرفية والشعور المتطور بالذات لديهم”.

ويبين أنه في بعض الأحيان، يأتي الأطفال بردود فعل تنم عن الخوف تجاه مثير ما قد يجده البالغون غير مخيف. والأطفال الأصغر سنا يتأثرون بوجه خاص بالعوامل الإدراكية الحسية القوية التي تطغى على دقائق السياق والسرد. ففي إحدى الدراسات، أصيب الأطفال بفزع شديد لدى مشاهدتهم المسلسل التليفزيوني “الرجل الأخضر”، رغم أن أفعال هولك، في مجملها، خيرة. وفي حين أن الأطفال الأكبر سنّا لم يجدوه مخيفا، فقد تركّزت استجابات الأطفال الأصغر سنا على بشرته الخضراء اللامعة، وعضلاته البالغة الضخامة، وتعبيرات وجهه الغاضبة؛ إلى درجة أن كل ما عداها أصبح عديم الأهمية بالمقارنة.والكثافة الإدراكية الحسية يمكن أيضا أن تفسّر عدم خوف الأطفال من مواضيع أخرى مثل الفيلم التليفزيوني “اليوم التالي”، الذي يدور حول تعرّض أمريكا لهجوم نووي. ففي حين أثار الفيلم انزعاجا شديدا لدى الكبار الذين يدركون خطورة الدمار النووي، فإن الأطفال الصغار كانوا يفتقرون إلى أي صورة واضحة مرتبطة بهذا الخوف.

النجوم والبحوث

اا

يلفت يونغ إلى أن أغلب نجوم السينما يمتلك شخصية عامة يمكن التعرف عليها في التوّ؛ صفات جذّابة ومثيرة للاهتمام. وكثيرا ما تكون تلك الصور المدركة العامة مبالغا فيها بسبب ميل النجوم إلى أداء أدوار متنوّعة للشخصية نفسها مرارا وتكرارا. فحتى في محفل عامّ مثل حفل توزيع جوائز الأوسكار، فإنهم يحرصون على تقديم نسخة مؤسلبة من أنفسهم. ومن ثمّ تتحوّل مثل تلك الظهورات عمليّا إلى دور آخر يساهم في نجوميتهم.

وفي النهاية، تطغى تلك النجومية على كلّ من أدوارهم السينمائية وواقع حياتهم اليومية؛ مما يجعل معجبيهم يشعرون بأنهم يعرفونهم جيّدا. فمن ناحية، يبدو هؤلاء النجوم بشرا عاديين كغيرهم ومألوفين، لكنهم، من ناحية أخرى، لا يشبهون غيرهم من الناس في شيء. فهم في حقيقة الأمر أساطير حية وأكثر نقاء من البشر العاديين نوعا ما.. إن سلطة النجوم قد تكون من القوة بحيث يمكن للمرء أن يذهب إلى أنهم هم المؤلّفون الحقيقيون للكثير من أفلام هوليوود. ففيلم لجون وين أو ويل سميث هو الذي يحدّد السمات التي يجب توافرها في الفيلم، والشكل الذي ينبغي أن يبدو عليه. وتتمثّل وظيفة صنّاع الأفلام الآخرين، بما في ذلك المخرج وكاتب السيناريو، في بناء مثل هذا الفيلم حول نجمه.

يلاحظ يونغ أن ظهور “نظرية المؤلّف” في الخمسينيات، وهي تقضي بأن الفيلم يعكس الرؤية الشخصية للمخرج، فيبدو كأنه هو المؤلّف الأساسي للفيلم، أحد أهم التطورات التي شهدتها دراسات الفيلم، وذلك حين ذهب نقّاد السينما الفرنسيون إلى أن بؤرة اهتمامهم ينبغي أن تكون المخرجين الذين يصبغون أعمالهم برؤية شخصية تعكس انسجاما على مستوى الأسلوب والتيمات مع حياتهم الخاصة.

ورغم أن القصص الوثائقية تتمتع بسمات سيكولوجية مختلفة نوعا ما، فإن بؤرة اهتمام هذا الكتاب هي الأفلام الروائية

وقد انحاز نقد المؤلّف في نسخته الأصلية إلى مخرجين بعينهم باعتبارهم حالات نموذجية، لكن هذا معناه أيضا أن الأفلام، شأن الروايات والقصائد والمسرحيات، صار لها الآن مؤلّفون. وإحدى النتائج غير المقصودة لهذه النظرية أن المخرجين أصبحوا تربة خصبة لتحليلات السّير الذاتية. فإن سلّمنا بأن الأفلام هي انعكاسات للرؤية الشخصية للفرد، إذن فإن تلك الأفلام نفسها تقدّم لنا مفاتيح للدخول إلى حياة المخرجين وإخضاعها للدراسة.

ويخلص يونغ إلى أن أحد أهم أوجه القصور في أبحاث التأثير هو أنها كقاعدة عامة تميل إلى التقليل من شأن الفروق السردية والجمالية الأساسية؛ حيث يتم التعامل مع جميع الأفلام باعتبارها متطابقة في جوهرها، أو التمييز بينها استنادا إلى معايير شديدة العمومية: هل تحتوي على عنف؟ هل تحتوي على جنس؟ هل تحتوي على جنس وعنف؟

ويضيف “أتذكّر أنني قرأت دراسة أثناء دراستي الجامعية، تضمنت شرطا تجريبيا أشارت إليه ﺑ‘أفلام جنس كوميدية محظورة‘، ووضعت تحت فيلمي ‘أوقات سريعة في مرتفعات ريدجمونت‘، و‘إتش أوه تي إس‘، إلى جانب بعض الأفلام الأخرى من مطلع الثمانينيات. وباعتباري صبيا مراهقا وقتها، شاهدت عددا كبيرا من تلك الأفلام لدى إنتاجها، بما في ذلك ‘إتش أوه تي إس‘ (تسلّلت إلى إحدى دور سينما السيارات بالاختباء في الصندوق الخلفي لسيارة)، فقد كان الفيلم لا يستحق ثمن التذكرة. وفكرة أن هذا الفيلم وضع في خانة واحدة مع فيلم مثل “أوقات سريعة”، وهو محاكاة ثقافية ساخرة ومحكمة البناء أبدعها صناع أفلام مرموقون، بدت لي شديدة السخف”.

ويرى أن أوجه الشبه بينهما شديدة السطحية، وتعتمد على احتواء كل منهما على مراهقين شبقين. وجعله هذا يتساءل إن كان الباحثون قد شاهدوا حقا الأفلام التي استخدموها في الدراسة. أحيانا، يفقد الباحثون دقّتهم الجمالية في خضم التحليلات الإحصائية وتصميم التجارب. ولأن ما يحركهم هو المخاوف الاجتماعية أكثر من تقدير الأفلام، فإنهم يجيدون تصور التأثيرات السلبية المحتملة أكثر من التأثيرات الإيجابية.

13