افتتاح قاعة "كولبنكيان" ببغداد بعد توقف دام ربع قرن

بعد توقف متواصل دام لأكثر من خمس وعشرين سنة، بسبب ظروف الحصار الدولي الجائر، والاحتلال الهمجي الأميركي للعراق، افتتح صبيحة الخميس 21 مايو الجاري، المتحف الوطني للفن الحديث “كولبنكيان”، بمهرجان تعبيري شامل للفن الفلكلوري البغدادي الأصيل، والذي يعد من الفنون التراثية التي يتفاخر بها العراقيون، في كل مكان وزمان، ليتجلّى بذلك مهرجانا وصباحا بغداديا رائعين.
الخميس 2015/05/28
أثر فني منحوت على الخشب لعلي الجبوري

بغداد - قاعة “كولبنكيان” أو المتحف الوطني للفن الحديث تعد من الرموز الفنية البغدادية الشاخصة، التي افتتحت بداية العقد الستيني من القرن الماضي، ولها روحية مكانها الاعتباري والواقعي الراسخ في ذاكرة ونفوس جميع أجيال العراقيين، من المثقفين، والفنانين، وغيرهم.. مما قدمته للمشهد التشكيلي والثقافي عموما من نشاطات وفعاليات لا تزال عالقة في الأذهان.

وقد شغلت إحدى قاعات المتحف، بمعرض للوحات زيتية، مختلفة القياسات، تناولت جميعها الموضوعات الفلكلورية البغدادية، بأساليب ومدارس فنية متنوعة وجميلة، كجمالية المكان في الأزقة الضيقة والشوارع العامة، وألعاب الأطفال الشعبية، والطقوس الاجتماعية، والمهن الحِرفية المتوارثة، وغيرها.

وقد شارك في المعرض الافتتاحي الجديد للقاعة بعد توقف دام أكثر من ربع قرن، أكثر من 60 فنانا وفنانة، من أجيال متعاقبة، بأكثر من 90 عملا.

كما افتتح في قاعة أخرى، معرض شخصي للنحات المهندس علي الجبوري، خصّص للنقش على مادة الخشب، والمواد المتممة الأخرى، وقد شمل 21 عملا نحتيا، احتوت تجربتين منفصلتين في النحت.. تناول في عشرة أعمال منها، جداريات كبيرة الحجم، قياس أبعادها يتجاوز أكثر من المتر المربع، الشناشيل والبيوتات البغدادية المتميزة بتفاصيل جمالية طرازها وهندستها المعمارية، من خلال رؤية وزوايا فنية جديدة، حيث الشبابيك الملونة الزاهية، والأبواب الخشبية ذات المقابض المعدنية، بأشكال متنوعة ونقوش نباتية وهندسية مناسبة.

قاعة "كولبنكيان" تعد صرحا فنيا شامخا في قلب بغداد، منذ افتتاحها عام 1962، بجهود الفنان الراحل نوري الراوي

لقد وظف النحات علي الجبوري، موهبته المتمرسة في النقش على خشب الصاج والجاوي، من خلال منظوره الهندسي في الرسم، مستفيدا من دراسته الأكاديمية الهندسية في هذا الجانب العلمي والعملي، لتأكيد هويته الفنية وترسيخ أسلوبه الشخصي، وجعله متوازنا مع اعتزازه وتخصصه في موضوع “الفلكلور” البغدادي، لكونه لم يأت من فراغ.

عشقه الأزلي وذكرياته المترسخة في مكان مدينته البغدادية، بجغرافيتها وتاريخها المديد، وبناسها وتقاليدها الاجتماعية المتماسكة، وبالحرفيات الشعبــية المتوارثة. كلها كانت صورا عالقة في ذهنه وضميره، يحاول أن يوثقها ويحفظها لأجيال قادمة على جداريات خشبية شاخصة، محفورة ومجسمة بنباهة وعناية فائقة، يجسدها كما لو يرسمها الرسام على قماشة لوحاته، وفق قواعد الرسم في البعد الثالث، والضوء، والظل والضوء، والنسب الهندسية، فضلا عن التشخيصات المكملة الأخرى.

كما قدم الجبوري 11 عملا نحتيا آخر، في حجم صغير، لا يتجاوز قياس ارتفاعها 30 سم، حيث استلهم فيها موضوعات تعبيرية إنسانية عامة.. فالموضوع يختلف تماما، كما لو كان نحاتا آخر قد نفذها، إذ أنها مختزلة نهائيا من أية تفصيلات وتشخيصات، أعمال مجردة، ولكنها مخزنة ومليئة بالأوجاع والمأساة الإنسانية اليومية التي يحملها العراقي خصوصا.

ويذكر أن قاعة “كولبنكيان” أو المتحف الوطني للفن الحديث، وهو اسمها الحالي، يعدّ صرحا فنيا شامخا في قلب بغداد، منذ افتتاحه عام 1962، بجهود الفنان الراحل نوري الراوي، وقد بناها الثري الأرمني المعروف كولبنكيان، مع ملعب الشعب الدولي، وجمعية التشكيليين العراقيين، وصروح أخرى، مقابل حصوله على نسبة مئوية من حصة النفط حينذاك.

وظلت معروفة باسمه منذ افتتاحها، إلى حد الآن، رغم أنه تم تغيير اسمها عدة مرات، من المتحف الوطني للفن الحديث، فقاعة النصر، إلى قاعة الحرية.. والآن أعيد إليها اسم المتحف الوطني للفن الحديث، وهو اسم يليق بها، وبتاريخها، وبرمزيتها، ففي كل بلدان العالم متاحف فنية، تحتفظ بتجارب فناني البلد، وتعريفها للأجيال، فضلا عن كون المتاحف تبرز وجها حضاريا دقيقا لجميع البلدان ومدى اهتمامها بإرثها الثقافي.

الجبوري قدّم 11 عملا نحتيا آخر، في حجم صغير، لا يتجاوز قياس ارتفاعها 30 سم، حيث استلهم فيها موضوعات تعبيرية إنسانية عامة

والمتحف الوطني، معترف به عالميا، حيث شهد هذا المعلم آلاف المعارض التشكيلية العراقية، ذات التجارب المتميزة التي أصبحت سمة بارزة في مشهد الفن العراقي المعاصر، ومنها المعارض التكريمية للفنانين الرواد، أمثال فائق حسن وعطا صبري وخالد الجادر ومحمد علي شاكر.. وغيرهم الكثير، ومهرجانات الواسطي، ومعارض البوستر السياسي المتنوعة.

وفضلا عن المعارض العربية والعالمية الكثيرة، كان لهذه القاعة ميزة، وهي إقامة أسابيع لكل فنان عراقي، حيث تزين القاعة بأعمال فنان عراقي واحد ويبقى المعرض مفتوحا أمام الزائرين ومتذوقي الفن العراقي لعدة أيام.

وتمّ تأهيل جميع قاعات المتحف، من حيث التكييف والإضاءة والتأثيث، والجدران لغرض العرض عليها، فضلا عن اختيار كادر متمكن من الفنانين الموظفين على ملاك دائرة الفنون التشكيلية، وتخصيص عناصر من الجانب الأمني بالتعاون مع وزارة الداخلية، ومفاتحة أمانة بغداد بغرض إزالة بعض المظاهر غير الملائمة بمحيط المتحف من أكشاك للباعة الجوالين، لأجل استعادة الرونق والمكانة الحضارية له، كما ستنتظم به فعاليات ونشاطات فاعلة، تصب في بوتقة ومسيرة الحركة التشكيلية القادمة.

16