اطمئن أيها الراحل، فقد خلّدتك خصالك

أيها الفارس المترجل عن صهوة جواده، اطمئن في دار الخلود، لأن الفرسان الذين كونتهم سيواصلون مسيرة "العرب".
الثلاثاء 2025/05/20
لقد كنت معينا لا ينضب

لا ندري، هل هي الغفلة أم زحمة اليوميات، أم لوعة الفراق هي التي تخرج أنين الندم على أي لحظة يضيعها الإنسان مع عزيز له، هل الموت هو الذي يباغتنا، أم عزيزنا الراحل هيثم، هو الذي اختار الترجل عن صهوة الحياة في اللحظة التي أرادها لنا، ليسلم أمره للحظة القدر والأجل المحتوم.

أعترف بأنني أهوى الخروج المتأخر من المعارك، حتى أطمئن على النتائج والمخارج، لكن أُقرّ أن خبر رحيل الدكتور هيثم، جمّد أوصالي، أو كان زلزالا ضرب أركاني، فلم أعرف كيف ألملم شتاتي، وأجمع كلماتي، لأن الخطب كان جللا علي، كما كان على أسرة وزملاء الفقيد الراحل.

بقيت مذهولا، أو مشدودا لركام من مشاعر الحزن، وصور الذكريات، وتواصل مستمر على المجموعات والمنصات، عوض قلة اللقاءات المباشرة، لكن “القلوب كانت عند بعضها”، وكافية لاختزال بُعد المسافات وتخفيف ثقل الانشغالات.

في شهر نوفمبر الماضي، وأنا منشغل بأحزان فقدان الوالدة رحمها الله، رن الهاتف، فوجدت المتصل هو الفقيد الراحل هيثم الزبيدي، وهنا طبيعي جدا أن يتصل رئيس عمل بمرؤوس للتعبير له عن مواساته والتعاطف معه، لكن صدمتي بدأت هنا، لما أبلغني أنه يكلمني من مصحة يرقد فيها، وأنه لا أحد من الزملاء يعلم بذلك، والباقي بدون تعليق.

رغم ألم الفقد ومرارة الموت، تحولت إلى معاتب: “لماذا تتعب نفسك وتجهد صحتك، أعرف نبل أخلاقك ونقاء سريرتك، شفاك الله، اعتن بصحتك هي رأس مالك، دع عنك مشاكل المؤسسة،” إلا أن الراحل كان حريصا على مواساتي والوقوف معي بما أتيح له.

كنت أعلم بقصة مرض الفقيد، إلا أن الأمل في الشفاء لم يبارحني، ومن تلك المناسبة صار السؤال عن الصحة في صدارة رسائل التواصل، إلى أن رد علي في إحداها: أعيش على المسكنات، وهنا طفت ذكرياتي مع الوالدة، لما انتهت عليها حلول الأرض ولم تبق إلا حلول السماء، وكم يكون الألم موغلا لما تعيش عذاب قريب ولا تستطيع أن تفعل له شيئا.

القلق ظل قائما، لكن ليس إلى درجة توقع الرحيل، وحتى لما اختفى عن مجموعات التواصل في المؤسسة، ظل الأمل يساورني بعودة الدكتور، لأنه ليس من عادته الغياب عن زخم المؤسسة، وظللت أواسي نفسي إذا ليس اليوم سيكون غدا، لكن الأيام جرّت بعضها بعضا، وتصاعد القلق إلى أن نزلت الصاعقة.

“أتعْلم يا صابر: أكبر وأعظم فقد، هو أن يفقد الإنسان والديه أو أحدهما،” لا زالت ترنّ في أذني يا دكتور، وها أنا أفقدك بعدما فقدت والدتي، لكن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، فقد كنت إنسانا مفعما بقيم التعاطف والتضامن، وكنت سندا يدعم مجتمع المؤسسة، فلا أنكر أنني حاولت أن أجاريك في الدخول إلى المجموعة في أول ساعة صباح، لكنك كنت دائما تسبقني وتسبق الجميع.

كنت أخاطب نفسي، من أي نوع هذا الرجل، وتأكدت لدي نوعيتك، لما بقيت مقاوما صلبا، وصابرا هادئا على المرض، وعلى تقلبات استمرار المؤسسة، وأنت الذي كنت تقول لي “لن أضحي بالمؤسسة من أجلكم، من أجل صحفييها ومراسليها وكتابها.”

لقد كنت معينا لا ينضب، اجتمعت فيه شهامة و”مرجلة” العراق، وشخصية صقلتها العقلانية والواقعية، وكونتها المنظومة الغربية، وفلسفة جمعت بين صرامة الهندسة وعنفوان الكلمة، وقائدا يسبق مجموعته وليس مديرا يأمرها من الخلف، فكنت الدكتور هيثم، النموذج المتفرد الذي تستلهم منه الأجيال طريقها نحو المستقبل، في الإعلام، كما في العلم، كما في الفكر.

أيها الفارس المترجل عن صهوة جواده، اطمئن في دار الخلود، لأن الفرسان الذين كونتهم سيواصلون مسيرة “العرب”.

18